نيالا: (دارفور24)
…. على الصفحة الجنوبية لوادي نيالا وهو نهر موسمي غزير المياه، ينتصب مبنى أبيض
مميز لا تخطئه عين الزائر، تطلق عليه هيئة الآثار السودانية “متحف دارفور بنيالا”،
بينما يصر أهل المدينة التي يعود تأسيسها إلى قرن ونصف من الزمان على تسميته ب”بيت
التاريخ”، نيالا والمناطق التي تحفها تحكي مأساة الحرب التي اندلعت في دارفور
منذ ثلاثة أعوام، لكن وجود متحف بهذا الثراء وسطها يعكس أن من رماد الحرب يمكن أن تزرع
زهرة.

ونيالا من
المدن الشهيرة في غرب السودان، وقد اختار موقعها الحالي أحد حكام دارفور ابان العهد
الاستعماري.. هذه المدينة من أكثر حواضر السودان سرعة في النمو والتمدد.. ويقطنها خليط
من العرب والزنج والبربر.. وتعد نموذجاً للسودان المصغر، حيث ينتمي إليها سكان من كل
جهاته.
في الوقت
الراهن ، أصبح المتحف أحد أهم مزارات المدينة، ومنذ افتتاحه عده سكانها المنتجع الأكثر
جذباً خاصة في مواسم الأعياد، وعادة ما ينصحون زوار مدينتهم بالتجول في غرفه.
وقد شيد المبنى
تحت إشراف مهندسين من المدينة يتبعون لبرنامج إعادة الإعمار والتنمية، واستخدمت المواد
المحلية في بنائه. ورغم أن المبنى يعد من البنايات الحديثة عكس ما هو الحال في مباني
المتاحف السودانية، لكن قواعده استندت إلى الأحجار الصلبة “الزلط”، وجدرانه
من الطوب الحراري المتماسك، بينما بنيت أسقفه من التربة المخلوطة بالرمل الأحمر، أما
الأبواب والنوافذ فصنعت من خشب القمبيل الذي عرفته المنطقة منذ مئات السنين.

وفي الوقت
الراهن تحول المبنى إلى معرض لتاريخ السودان القديم والحديث، ويضم أجنحة للثقافات المحلية
في دارفور وصناعات فئاتها المختلفة، ومشغلا لعرض أنواع من الأنشطة الاقتصادية، لكن
ما يميزه من غيره من متاحف السودان، انه يحتل موقع القلب من المدينة، ويرقد على صفحة
الوادي برماله البديعة، ويجاور حدائقه وجنائنه.
أجنحة المتحف
تسع لصالات ضخمة “بطول 28متراً وعرض تسعة أمتار”، وهي مبنية على الطراز الحديث.
ويتسع المتحف ليقدم عرضاً هائلاً لتاريخ السودان بأكمله، ومن يغلق باب المتحف وراءه
يمر بعدد من المراحل التاريخية في تاريخ السودان، بدءاً بحضارة ما قبل التاريخ وحضارة
المرحلة التي تلتها وهي “حضارة كرمة السودانية” التي ازدهرت في الفترة ما
بين 2000إلى 1850قبل الميلاد، وهي أول حضارة سودانية عرفت صناعة النحاس، وكان أهلها
يعملون بالزراعة كحرفة رئيسية. ويضم المتحف السلطاني من مخلفات تلك الحقبة عدداً هائلاً
من الأواني الفخارية المختلفة في أحجامها وأشكالها من الحقبة التي سبقتها، من حيث الحجم
والشكل والزخارف.
ويضم المتحف
من مقتنيات تلك المرحلة مجسمات للمرأة على هيئة تماثيل بأحجام مختلفة وكثيفة العدد،
وتحوي غرف عصر كرمة عدداً من أرجل “العناقريب” وأعداد كبيرة وبأحجام مختلفة
من أمواس الحلاقة المصنوعة من البرونز.

كما يحتوي
هذا الجناح على مقتنيات أثرية من مختلف أنحاء السودان، يمتد تاريخها إلى عصور ما قبل
التاريخ وحتى فترة الممالك الإسلامية، تشتمل الصالات الداخلية للمتحف على عدد من المقتنيات
الحجرية والجلدية والبرونزية والحديدية والخشبية، وغيرها في شكل منحوتات وآنية، وأدوات
زينة وصور حائطية وأسلحة وغيرها.
لكن الملفت
ان هيئة الآثار انتقت مجموعات مميزة من لاآثار السودانية تمثل حقب التاريخ المختلفة
لتزين بها صالات المتحف، ويبدأ الزائر تجواله بغرف لفترة ما قبل التاريخ، وقد عرضت
من مقتنيات تلك الفترة فؤوس حجرية من منطقة وادي هور “المنطقة المحاددة لموقع
الحضارات النوبية القديمة وتقع شمال وشمال شرق دارفور”، ورحى متوسطة الحجم أخذت
من منطقة نوري، وبالجناح أكثر من “250” قطعة حجرية للاستخدام المنزلي والطحن
وأدوات للزينة.
وهناك شق
به أدوات زينة نسائية مصنوعة من العاج ومن الأحجار الكريمة والحجر الرملي، وبعضها مصنوع
من القاشان، وكلها تعود إلى فترة ما قبل التاريخ، وهي الفترة المجهولة تقريباً في تاريخ
السودان القديم.

بجانب أدوات
منزلية غاية في الروعة وابر من العظم وعقود من الزجاج والكوارتز.. وهذه تعود إلى حضارة
كرمة.. وفي جانب الصالة الأيمن نجد فنارة بها قناع لرجل منحوت من الجبص موشي برسومات،
يرجح بأنه يعود إلى فترة المملكة المصرية الحديثة.
وبجانب ذلك
وفي الداخل تتمدد حجرات ضخمة لعرض التاريخ الحديث للسودان ولدارفور، ويضم هذا القسم
مقتنيات من عهد ملوك دارفور وسلاطينها إلى عهد الحكومات الوطنية التي بدأت بخروج الاستعمار
الثنائي، فضلاً عن قسم يجسد النشاط البشري في دارفور وحركة النساء والمزارعين والرحل.

وينقسم الجزء
المخصص لدارفور إلى ثلاثة أجنحة رئيسية، حيث يحمل الجناح الأول اسم “الجناح الحربي”
ويضم أدوات الحرب المختلفة، بما في ذلك السيوف التي حارب بها سلاطين وجنود دارفور،
والأسلحة الأخرى البيضاء التي استعملها أو أهديت إليهم والدروع وغيرها من مقتنيات المحارب،
كما تشتمل أدوات الحرب على الطبول الضخمة التي تضرب لإعلان الأوامر، وكذلك إعلام ممالكهم
وهي من القماش ومكتوب عليها بعض أسماء الله وأسماء الرسل والخلفاء الراشدين وبعض أسماء
أجدادهم وبعض الأذكار والآيات القرآنية.. وهناك أيضاً الأبواق الضخمة وعدد من الأدوات
الحربية كالسيوف والسكاكين جيدة الصنع والفؤوس وبعض البنادق الآلية “المرمطون”.
وملحق بهذا
الجناح شق للسلطان على دينار، وهو من أشهر سلاطين دارفور والسودان وأكثرهم مقاومة للاستعمار،
فقد خصص هذا الشق لمخلفات السلطان التي تشمل الملابس الرسمية للسلطان، وهي الجبة الحمراء
التي اشتهر السلطان بارتدائها في ساعة الشدة وأزمنة الموت والإعدامات، وكذلك جبة السلام
وهي بيضاء اللون، وكان يلبسها لتوزيع الهدايا والمكرمات، وفي المناسبات السعيدة ولاستقبال
الوفود الرسمية، وهي بيضاء تنتهي بألوان مزركشة مصنوعة من القطيفة.

ويضم الجناح
أيضاً أدوات زينته ومنها “ساعة جيب” مهداة للسلطان من أحد ملوك الحجاز، وخاتم
السلطان وعمامته الرسمية، وبعض النقود السلطانية وتسمى في تلك الفترة ب”رضينا”،
وبعض الوحدات الصغيرة وتسمى “المليم” والبريزة والعشرية وكانت تصك في مدينة
الفاشر، ومن المخلفات أيضاً راتب الإمام المهدي ومصحف مكتوب بخط اليد ومسبحة، وتوجد
وثيقة واحدة فقط مكتوبة بخط يد السلطان على دينار، وبها أوامر لأمراء البلدات.
ومن ضمن المخلفات
أدوات تدل على فترة السلم، وهي أوان حجرية وأخرى خزفية بأحجام مختلفة وألوان زاهية
يغلب عليها اللون الأحمر والرمادي.. والغريب أن من بين محتويات هذا القسم بعض أدوات
صيد السمك بجانب مجموعة شراك، وهي مصنوعة من لحاء الأشجار وبعضها من عصب الحيوانات
تستخدم للامساك بالطيور.

وبجانب ذلك
هناك شق خصص لأدوات زينة نساء السلطان، وهذه الأدوات تمثل تحفاً فنية راقية، وتشير
المواد التي صنعت منها إلى مدى الترف الذي كانت تتمتع به نساؤه، فمن بينها أدوات زينة
عاجية ونحاسية وذهبية وأدوات زينة خزفية مزركشة، وبعض الأواني المنزلية كأباريق القهوة
وقدور الطهي.
لكن ما يعطي
المتحف نكهته الخاصة الجناح الذي يضم الفلكلور المحلي لدارفور، وهو جناح غني يعرض اشكالاً
من الثقافة المحلية ومنتوجاتها المادية بشكل يعبر عن كل سكان الإقليم وأنشطتهم.. ففي
الطرف الشمالي من المتحف تنتصب خيمة من السياج الحديدي مبنية على شكل اسطواني تذهب
بمن يدخلها إلى كل دارفور، بحيث لا يخرج إلا وقد عرف المنطقة وقبائلها وثقافاتهم ومشغولاتهم
وطرائق أكلهم وسكناهم وممارستهم للحياة.
أعده لـ(دارفور24)
الصحفي فرح أمبدة: