صلاح شعيب
المزايدة الابتزازية، أو الابتزاز المتزايد، هو جوهر كفاح الأخ المسلم في الحياة. ولئن صلح إبراز تميزه الديني عليك فذلك لتعتق مزايداته، وابتزازه الديني. والعكس سليم. وكوزنة السنوسي الطقسية الروحية، إذ هي حريصة على التعالي عليك بتدينها، لا بد أن صاحبها يحسسك بكتفه بأنه موجود بأفضل منك في صف الصلاة الأول. فأنت هنا أقل مرتبة منه في حيازة الموقع حتى إن جاء ليجدك في المقدمة. فالسنوسي زادها حبتين، على حد قول شهود العيان.
وهذه الزيادة ضرورية، ذلك حتى نعرف الفرق بين تصوفنا السودانوي النابع من طبيعة الشخصية السودانية وبين تصوف الكوز المستورد. والحبتان التي لن تنبلع من تصرف السنوسي عند تشاجر حرسه مع أحد غمار العابدين في حادثة مسجد السيدة السنهوري تكشف عن مزايدة دينية ليس سواها. فهو إذ هو في خصيصة أمره.
إنه يموضع نفسه، مسبقا، بأنه أفضل من ذلك الشاب حين نأتي لأمر أحقية الوقوف خلف الإمام الرئاسي، أو شيخ الزين. وحجته أنه حافظ لكتاب الله. وببساطة، هذا يعني أنه ليس في الصف من هو أقدر على تقويم الإمام إذا أخطأ افتراضا إلا هو الحبر الأعظم. أي أن الصلاة السنوسية تحمل في قلبها قلما أحمر، ولا تسلم كل حواسها لله. وبمعنى الكلام فإن أيا كان من هو على يمينه، أو يساره، فهو مجرد مصلٍ خالي الوفاض، مكانه في الوراء جوار الحريم، ربما. عندئذ يبقى الموضوع عند السنوسي أنه لا بد أن تراعي هذا الجناب الديني العالي يا شاب، ويا كهل.
فالمكان محجوز له استباقيا، إن تقدمك فله، وإن تقدمته فلا مناص من أن تعود القهقري خلف أبناء السبيل، الواقفين جوار الشباك. وإن جادلت السنوسي هنا برفض إخلاء مكانك له حتى سُمِع الهرج، والمرج، أثناء إقامة الصلاة، فلا بد أن تعتذر له بعد التشهد الأخير لتصرفك الذي ما من الإسلام في شئ، حتى إن أخليت المكان.!
الحقيقة أن مزايدة السنوسي في إعلان أحقية تصدره لقائمة الصف الأول في الصلاة جزء من إستراتيجية الإسلام السياسي. فمنذ حادثة شوقي وملابسات ندوة معهد المعلمين يزايد الإسلاميون، ويبتزون دينيا، في ساحات السياسة حتى ختموا الخمسين عاما من عمرنا بختمهم الاستراتيجي هذا. أي ختم “التدافع” بالمزايدة، والابتزاز، حتى يرهبوا عقولكم، ثم تلين قناتكم، فيستأسدون عليكم نكالا لاستجابتكم. وما يفعله د. الجزولي هذه الأيام هو من شاكلة ابتزاز السنوسي الروحي. فالدكتور، من خلال ابتزاز زملائه بخصوص التوقيع على اتفاقية “سيداو”، إنما يكشف عن ابتزاز كيزاني – كيزاني صرف. له ما بعده.
وإستراتيجية الجزولي منذ أن ظهر، من غير ميعاد، في الساحة هي المدافعة، أو قل المدافرة، بالابتزاز الحامض، والمزايدة اللزجة. لا يتقدم على محاوريه بالحجة، أو السعي لاستفهام الأشياء منهم، أو اكتشاف مصدر خطأ الرؤية، وإنما يصدر دائماً تطرفا لدواعي الممايزة البراميلية الصوت. أما حين يزايد الجزولي على الحكومة فإنها تعتقله بحرج، ثم تفك أسره، ثم يضاعف ابتزازه مرة أخرى حتى تعيد اعتقاله.
إنه يأخذ أكثر المواقف الدينية تطرفا حتى يبقى إسلام الحكومة مخملياً، وهاهنا فإنهم يتجرعون كأس ابتزازهم الذهبي للمهدي، والميرغني، اللذين ظلا يعانيان الابتزاز بأنهما علمانيان منذ الستينات حتى يستجيبا، وقد فعلا بنهج الصحوة، والجمهورية الإسلامية.
ونحن نعرف ما قبل ذلك أن الحزبين لم يكشفا عن استراتيجية لأسلمة السياسة، ناهيك عن الدولة. فالسيدان أوكلا أمر السياسة للخريجيين الغردونيين. إبراهيم أحمد، والمحجوب، وَعَبَد الحليم، لما خَص توكيل عبد الرحمن المهدي. أما الأزهري، وأحمد خير، والفضلي، لما خَص توكيل علي الميرغني.
لقد نجح الإسلاميون في ابتزاز قادة أحزابنا الرئيسية، وزايدوا عليهما حتى تعالوا عليهما بالموقف الابتزازي ضد كل خطوة لتفسير الدين. هذه الشفرة الابتزازية الموشاة بالابتزاز لم يكتشفها أعتى مفكرينا، ولذلك تجدهم يصدقونهم بأنهم يشاركونهم في حل المربوط. للأسف.
حين ترى السنوسي خلف الإمام وهو يحمل مصحفا، ويهمهم بصوت دون سائر المصلين، ويصدر حركات يحسسك بأنه برنجي الصف. ومهما بلغت نواياه إلا أنه يصدر تصرفا ناشزا من النوع الذي ربما يصفه الوهابيون بدع الضلالة. فما حاجة السنوسي لهذه الدراما الروحية إلا للتمييز وسط المصلين. ولو أنه عبد الله حق تقاته فما له من حاجة لإبداء التميز هذا لمن يجاورونه من عباد الله الذين يصلون خاشعين. ولكنها المزايدة الشكلانية التي تجافي ظاهر حياة السنوسي. فهو بنهج معاملاته لا يتجوهر إلا كإنسان ضعيف أمام الجا،ه والمنصب، وفي تاريخه الكثير من الموبقات. ولو أن حركاته البهلوانية خلف الإمام هي تعبير مثقل بالندم على هذا التاريخ الموشى بالدم فما هكذا تورد الأبل.
لا شك أن السنوسي عنصر أساسي في تجربة الدم، والدموع، التي أفرزتها الحركة الإسلامية بكلفة عالية. ولا يكفيه هذا التدين الشكلاني لخلق تسوية متزايدة مع خالقه بهذه الصورة المتهافتة. فلو كان الدين المعاملة فلا بد أن يحرص على أن يتواضع بنفسه وسط المصلين، لا أن يميز نفسه المتعالية عنهم. فلو أن الله يكافئ مصلي الصف الأول، والأخير، بقرب نفسهما منه فعندئذ فلا معنى للاشتجار ما دام قلب العبد عامر بالخشوع أينما جلس في المسجد. وإذا كانت النساء تصلي خلف الرجال كما درجت العادة فهل بذلك تزداد حسنات السنوسي بأكثر من العابدات القانتات لمجرد أنه يتقدم صفوف المصلين الذكور؟.
إن الحادثة لا بد متصلة بطبيعة التدين الشكلاني الذي غدا يسيطر على مظهر السلطويين بينما تغيب الاستقامة في بقية حيواتهم. ولو أن هناك مساجد باتت طبقية بحيث أن تحتوي أثرياء المرحلة دون فقرائها، وتحجز لهم فيها مواقع محروسة بالطبنجات، فإن تصرف السنوسي تعبير طبيعي لتدين يعلي من إبراز مظاهر الشعائر في وقت يحط من قيمة التعاملات. ولهذا بقي كل تركيز السنوسي في ذلك اليوم شعائريا بشكل متزايد أكثر من كونه روحانيا يلجم نفسه الأمارة بالاستعلاء الديني. فمثله كان يظن، بغير إثم، أنه غير مؤهل ليواسي نفسه مع هؤلاء المساكين الذين يجلسون في الصف الثالث، مثلا، والذين هم مثلي، ومثلك. وإذا كانت قناعة هذا المصلي الرئاسي أنه دخل المسجد سواسية مع الداخلين لفضل الجلوس في آخر الصف دون أن يثير هذه الضوضاء. ولا بد أنه لو فعل ذلك لكافأه الله بأجر نيته، وبأجر تواضعه، وبأجر احترامه لحرمة المسجد.
أما تبريره بأنه لا بد أن يحوز على مكان في صف المقدمة لكونه دأب على ذلك بنية تصحيح الإمام إذا أخطأ فهذا عذر أقبح من الذنب. فمن ناحية لا نعلم بمسجد تحجز صفوفه الأولى إلأ في عصر هذا التدين الشكلاني الكافوري. ومن ناحية أخرى يتقبح العذر أكثر حين يعتقد السنوسي بتبريره أنه الوحيد الذي يخول له إبداء هذا التقويم، ومعنى ذلك أن في حال غيابه سيكون مكانه شاغرا ما يعني أن الصف الأول يفتقده عند الليلة الظلماء. وعلى كل حال، ذلك هو مقام الشياخة الذي يوزع كما صكوك الغفران بينما فراغ الروح الديني، والإنساني، هو ما ارتبط بمن نالوا هذا المقام زورا، وبهتانا، وخيلاء. وحسبنا الله ونعم الوكيل.