يجلسون على الرصيف وينامون عليه، واحياناً يقتاتون من براميل القمامة، أو تجدهم تائهين في طرقات المدينة، هم شيوخ مسنين وأطفال وشباب بعضهم تحرر من قيود العقل، فباتوا يتصرفون تحت اللا وعى، تحرق أجسادهم الشمس، وينخر البرد عظامهم، وحين يشتد عليهم جحيم الطريق ينتهون داخل المستشفيات مرضى أو جثث، مكتوب على ملفاتهم في سجلات الشرطة والمشافي (مجهول الهوية). كيف يتعافون أن كانوا مرضى داخل المستشفيات، ومن يواري أجسادهم الثرى حين يفارقون الحياة؟؟.

(دارفور 24) دخلت عالم (المجاهيل) لتروي من رصيف الطرقات إلى المستشفيات، قصة (مجاهيل) في جحيم النسيان عبر هذا التحقيق.

معاناة الرصيف

أسوأ أنواع المعاناة التى يعيشها الأنسان هى أن يكون وحيداً، بلا عون أو سند يتألم، يصرخ دون أن يسمعه أحد، تجف دموعه وتركت على وجهه خطوط باهتة كرسم سريالي يختزل معاناة إنسان على الرصيف، ذلك المشهد يتم انتاجه بين الحين والآخر ويعرض دون توقيت محدد في مستشفيات العاصمة السودانية الخرطوم، فيقصي المشهد خطوات المواطنين إلى الوراء لقساوته، فهم مجهولي هوية قذفت بهم ظروف غير طبيعية إلى الشارع فاتخذوه ملاذاً لهم.

فى العام 2014م وفي داخل عنبر العظام بمستشفى الخرطوم التعليمي رصدنا حالة صبية ابنوسية تعرضت لحادث وهي تلهو في شوارع الخرطوم تم العثور عليها ملقاة على الأرض احضرتها أحد دوريات الشرطة لتلقي العلاج بالمستشفى الكبير، تم اجراء اللازم لها من ضمادات جروح وجبيرة لليد وتركت لحالها وحيدة تجلس على السرير تصرخ من شدة الوجع ولا تعلم شيئاً عن تفاصيل حياتها سوى أن أسمها (حواء).

عانت الصبية ذات الـ (13) عاماً تقريباً، قساوة الوحدة وهي بدون سند أو عون فى محنة المرض، لم تجد المسكينة من يأخذ بيدها ويساعدها في (قضاء حاجتها)، وأضحى حالها يفطر القلب تبكي وتنادي (حبوبة).. ذوى المرضى من حول الصبية حاولوا مساعدتها فى حدود ما هو متاح لهم بعد أن فاحت راحتها وملأت العنبر نتانة.

وفى مستشفى ابراهيم مالك أمام عنبر المخ والأعصاب كان هنالك رجل مسن ملقي على الأرض ملابسه رثة لا يتحرك وعامل النظافة من حوله يكنس المكان، وكأن الرجل جزء من القمامة، سألنا عن هوية الرجل وماذا حل به ولكننا لم نجد سوى اجابة واحدة فقط أنه مجهول هوية أحضرته دورية الشرطة وتُرك هكذا أمام باب العنبر على الأرض لأنه مجهول هوية.

مشاهد ثابتة

مرت السنوات وتراجيديا المرضى مجهولي الهوية لم تتغير، حتى هذا العام الذى كشف مدى قساوة أن يكون شخص مجهول هوية يمرض ويموت دون أن ينتبه له أحد كما حدث في مستشفى بحري التعليمي حين ظلت جثة أحد المجاهيل لساعات على النقالة.

الساعة الثانية عشر ظهراً وأثناء جولتنا بحثاً عن مجهولي الهوية في الطرقات عثرنا على رجل مسن يفترش رصيف أحد الشوارع الواقعة شرق وزارة العدل، حاولنا التحدث إليه ولكنه كان يغطي فى نوم عميق وحوله أغراضه وضعها بجواره في المأوى الذى إختاره. الرجل يعطف عليه المارة ومن يجاوره ولكن السؤال ماذا اذا مرض وكيف يكون مصيره؟؟

لم تنتهي جولتنا داخل شوارع الخرطوم وفي وسطها النابض بالحركة، وجدنا رجل آخر يبدو أن عمره تجاوز السبعين عاماً ولكنه قوي البنية يفترش قطع الكرتون مستغلاً غرفة مبنى تحت التشيد فى شارع مدرسة علي عبد اللطيف، لا يبرح مكانه يضع له الخيرين الطعام والماء بجواره، ذات السؤال نعيد طرحه هنا ماذا يحدث له أذا مرض؟.

هذا السؤال كان لا بد لنا من البحث عن إجابته داخل المستشفيات وعلى مدى بحث متواصل عن مصير هؤلاء (قاطني الرصيف) عثرنا على أحدهم فى عنبر حوادث مستشفى امدرمان، قسم الرجال، وجدناه رجل مسن يبدو أنه في شبه غيبوبة لا يرتدى شيء سوى (سروال) داخلي ويتدثر بغطاء رث، وعلى ملفه كتب محل الأسم (مجهول هوية)، الرجل وحسب المعلومات التي رواها المسؤول عن مجولي الهوية لـ (دارفور 24) أنه عُثرت عليه دورية الشرطة فى وقت متأخر من الليل فى أحد مجاري مدينة امدرمان وهو في حالة إعياء تام ومغمى عليه تم أحضاره للمستشفى وأجريت له الفحوصات اللازمة وتبين من الفحص أنه يعاني من إرتفاع السكر في الدم، وحتى مغادرتنا المستشفى لم ينطق بكلمة واحدة.

المريض يشرف على علاجه شاب يدعى (بدر الدين عبد الله)، عينته إدارة مستشفى امدرمان لرعاية تلك الحالات (مجهولى الهوية) بالمستشفى، قال لـ (دارفور 24) إن تردد مجهولي الهوية غير ثابت ويصادف أحياناً أن يستقبل المستشفى في اليوم الواحد (7) حالات، ومرات يمضي أسبوع كامل دون استقبال حالة واحدة.

وأضاف “وقد بلغ في شهر عدد حالات مجهولي الهوية حوالي (100) حالة للمرضى من الجنسين وباعمار متفاوتة”. وقال إنهم يقومون بعلاج المريض على نفقة إدارة المستشفى التى انشأت قسم معني بتلك الحالات تفادياً للمواقف الانسانية الحرجة التي توجههم فى رعاية تلك الشريحة، ويعمل القسم نظام ورديات مقسمة على ثلاث أشخاص يتناوبون عليه.

وتابع “هناك خيرين يساعدونهم فى توفير العلاجات والملابس، ويقومون برعاية المريض رعاية صحية وشخصية حتى يتعافى، وبعد ذلك تكون المشكلة الأساسية فى خروج مجهول الهوية وعودته للشارع مره أخرى لأن المستشفى غير مسؤول عن ايواء المرضى بعد تعافيهم، وهنا يكون الدور على الرعاية الإجتماعية التي تترك المسنين والأطفال في الشارع”.

وأكد بدر الدين أن المريض مجهول الهوية أذا توفى يتم تسليم جثته للمشرحة وبدورها تتبع الإجراء اللازم في مثل تلك الحالات.

استمرار البحث

من أمدرمان الذى وجدنا به قسم لرعاية المرضى مجهولي الهوية واصلنا بحثنا في عدد من مستشفيات العاصمة التى خلت من أية جهة تولي مسؤوليتها لمجهولي الهوية، كما حاولنا التحدث لمدير إدارة المستشفيات بوزارة الصحة حول القضية ولمعرفة دور الوزارة في حل المشاكل المتعلقة بهم داخل المستشفيات، ولكن حتى كتابة هذه السطور فشلنا في مقابلة الجهة المختصة. نسبة لانشغاله حسب رده.

في المشرحة

من حديث بدرالدين أنه من الطبيعي طالما هناك مرضى مجهولي هوية أن تكون هناك جثة مجهولة أيضاً معنى أن رحلة الرصيف القاسية لهؤلاء الشريحة قد تنتهى فصولها داخل المشرحة فى إنتظار من يتعرف عليها أو يتم قبرها جثة نكره عاش صاحبها على طريقة المقولة القاسية (مقطوع من شجرة).

المشهد الأخير من فصول معاناة مجهولي الهوية هو المشرحة، التى كان لا بد لنا من طرق أبوابها لمعرفة كيفية التعامل مع مجهولى الهوية.

يقول مدير مشرحة مستشفى أمدرمان التعليمي، برفيسور جمال يوسف، إن هناك نوعان من مجهولي الهوية وهما مجهول هوية ومجهول الأقارب الأخير هو من يكون معرف عنه الأسم فقط وهذا يسهل العثور على ذويه، وأضاف “في الحالتين يتم التعامل مع هذه الشريحة وفق اجراءات قانونية معروفة، حيث يتم الإحتفاظ بالجثة لفترة أقلاها شهر وتترواح المدة من شهر إلى ثلاث وفي تلك الفترة أن لم يتم العثور على ذويهم يتم قبرهم وتحفظ بيانات المتوفى برقم وتحتوى البيانات على تاريخ الوفاة وأسبابها ومكان الدفن”، وأكد أن المشرحة لديها طاقة تمكنها الإحتفاظ بالجثث أطول فترة ممكنه.

وذهب جمال في حديثه إلى أن الأشكال الحقيقي في القضية ليس أشكال جثث مجهولة وأنما هي مشكلة تطرح سؤال واحد وهو مسؤولية من هذه الشريحة (مجهولي الهوية) وكيف أنتهى بهم الأمر لتلك المرحلة. وكشف أنعن عدد حالات الجثث المجهولة الهوية خلال عام بلغت تقريبا حوالى (300) جثة.

وزاد “هناك مشكلة لم يراعيها المواطنين ولم تتبع فيها اجراءات حاسمة من قبل الجهات المسؤولة وهو تنقل المواطنين بدون هوية أو بيانات ترشد للوصول لاقاربهم أذا حدث لهم مكروه، ولكن تجد كثير منهم أن لم يكن معظمهم بلا هويات”.

وأوضح أن الرقم الوطني لم يتبع طريقة الرقم المتسلسل والذي يكون بمثابة رقم واحد لكل العائلة وفق تسلسل الأب والأبناء وهكذا، مردفاً “لأن الرقم المتسلسل يمكن العثور على بيانات الشخص بسهولة لأنه بمجرد إدخاله فى جهاز البيانات تجد معلومات الشخص وعائلته، تماما مثل طريقة البطاقة العلاجية كل أفراد الأسرة برقم واحد، هذه الطريقة متبعة فى الدول”، وزاد “أن تكون هناك بصمة وراثية dna بدلاً من البصمة العادية، وهى أقل تكلفة خاصة وأن السودان به معمل متطور ومتقدم جداً فى الأدلة الجنائية”.

المقابر

في مقابر فاروق التقينا عوض فاروق المسؤول عن المقابر حدثنا عن مجهولى الهوية قائلاً: إن الجثث مجهولة الهوية زادت نسبتها فى السابق لم تكن ظاهرة بهذا الحجم حتى فترة التسعينيات حيث تجد بعد شهر أو شهرين تكون هناك جثة مجهولة هوية. وهذا يشير إلى حجم التفكك الذى أصاب المجتمع وإرتفاع نسبة حالات التشرد.