جاء موقف الحكومة السودانية إزاء المقتل البشع للصحافي السعودي جمال خاشوقجي انتهازيا أكثر منه مبدئيا. وإذا جامَلَنا الحكومة فإن موقفها كان للتقية، ولمقابل معلوم باللازم. ولو أدركنا مقتضيات فقه الضرورة أكثر فإن بيان الخارجية حول مقتل خاشوقجي يظهر خلاف ما يبطن. فما لاحظناه أن كل تيارات الإسلام السياسي في المنطقة، ومؤسساته الإعلامية، قد اتخذت موقفا حادا تجاه الطريقة التي فقد بها الصحافي حياته. بل إن العلمانيين، والليبراليين، والمنتمين لسائر الاتجاهات الأخرى، جاءت مواقفهم تجاه مذبحة خاشوقجي المنتمي لفكر الإخوان، قوية ومعبرة لا لجاجة فيها، على خلاف موقف دولتنا الإخوانية الجذور.
فخاشوقجي، والذي كان ينتمي للإخوان المسلمين، حاول المراوحة بين الولاء لحكومة بلاده حينا وبين السير بمنطلقاته الإخوانية حينا آخر. ولكن الصراع الحاد بين تحالف السعودية وتحالف قطر المدعوم إخوانيا جندله صريعا.
ولأن الموقف الحكومي السوداني يناقض الموقف الإخواني محليا، وإقليميا، ودوليا، تقدم النائب البرلماني عن حركة “الإصلاح الآن” فتح الرحمن محمد الفضيل بطلب استدعاء لوزير الخارجية عبر رئيس البرلمان حول بيان الوزارة “بخصوص إغتيال الصحفي خاشقجي”. ووفقا ل”سودانتريبيون” انتقد الفضيل البيان الذي جاء مساندا للمملكة العربية السعودية، وقال في أسئلته: “لماذا استعجلت الخارجية السودانية استصدار بيان يساند السعودية قبل أن يتم التحقيق ؟”.
ولا بد أن النائب البرلماني ساءه أن يتخذ زملاؤه في الحركة الإسلامية هذا الموقف الذي يتناقض مع مواقف الإخوان حول العالم تجاه ما فعلت السعودية، والتي تسعى بجانب مصر، والإمارات، لاستئصال شأفة الإسلاميين. ومن ناحية أخرى ينبئنا موقف النائب الإصلاحي بأن الاخواني كلما أبعد عن السلطة وجد حريته لمخالفة الدولة. فَلَو أنه كان ضمن طاقم التوظيف الحكومي فإنه سيلوذ إلى الصمت كشأن أعضاء هيئة علماء السودان. وهؤلاء العلماء غير الأجلاء، كما نعلم، يقوم عملهم مع الحكومة على قاعدة توفير المرجعية الفقهية التي تجلب المصالح للإخوان، وتدرء (المكاره) من درب الحكومة، لا السودان.
-٢-
إن المواقف الإنسانية تجاه الظلم، والقهر، والاستبداد، وحجر حرية التعبير، لا تحتاج إلى مراوغة في التعبير. فحقوق الإنسان ليست محل مساومة. فخاشوقجي قتل ظلما، وينبغي إدانة دور السعودية في نشر الاٍرهاب الفكري تجاه المثقفين، من مواطنيها وغيرهم، الذين يعيشون داخلها، وخارجها. على أنه ما كان لنظام الحركة الإسلامية في السودان سوى التعبير المتلجلج حول اختفاء خاشوقجي. إذ إن تحالفات الدولة الخارجية تقوم عند المحكات على مصالح سياسية، وليست على مرجعيات دينية. إذ يفصل النظام الدولة عن الدين حينما يجد الجد في الوقت الذي يخيف قادته السودانيين بصاحب كل توجه علماني. فالحركة الإسلامية تستأسد على مواطنيها الضعفاء بجمع الدين والدولة محليا، أما خارجيا فإنها تبدو اكثر جرأة في الفصل بين الدولة والدين. فالرادعان الإقليمي والدولي يدركه الإخوان المسلمون الحاكمون جيدا للدرجة التي يستجيبون إليهما حتى بخيانة تحالفاتهم مع إخوانهم الذين استجاروا بهم من بلدان أخرى. فالنظام تحت ضغط حديث بوش الثاني – إما معنا أو مع العدو – بلع مواقفه النظرية تجاه ما يسميها دولة الاستكبار الذي يدنوا عذابها يوما. وهناك شهادات موثقة عن التعاون الاستخباراتي بين حكومة الحركة الإسلامية والمخابرات الأميركية، والذي بموجبه سلم السودان وثائق هامة عن إسلاميين تواثق معهم يوما حين كان إبراهيم السنوسي يدير منظمة المؤتمر العربي الاسلامي، والتي جمعت فأوعت كل المتطرفين الدينيين. وبمثلما قال بولاد إن الدم أثقل من الدين لدى مفهوم زملائه السابقين فقد تيقنت الحكومة أن الدولة أهم من الدين أيضا. ولذلك انتهى الشغل النظري لأدب الحركة الإسلامية الجهادية عند أول تهديد أمريكي أعقب حادثة الحادي والعشرين من سبتمبر ٢٠٠١.
لم يتوقف الإخوان المسلمون السودانيون عن الركوع للرادع الدولي فقط، وإنما أيضا استجابوا لابتزاز الرادع الإقليمي بناء على تحالفات الأقوياء مع الضعفاء. فالقذافي الذي قال البشير إن سقوطه كان رحمة على السودان كان قد تلقى هدية ثمينة منه بعد أن سلمه عددا من الإسلاميين الليبيين، والذين قام بقتل بعضهم حالا بوصف أنهم كانوا “كلابا ضالة” مثلما يسميهم.
والدليل على ذلك الفعل المخزي أن عبد الحكيم بلحاج صرح لصحيفة السوداني حين زار البلاد بأن السودان سلم ما يقرب “عشرة تقريباً من الاسلاميين الليبيين للقذافي”، وأضاف بلحاج: “منهم من تم تسليمهم مؤخراً تقريباً في عام 2002 حوالي خمسة أشخاص وكانوا جميعاً بأسرهم زوجاتهم وأولادهم يعيشون في السودان، كانوا متزوجين من السودان ورغم ذلك تم تسليمهم للقذافي..عانوا جداً في الحقيقة، منهم من مات في السجن بسبب التعذيب الذي تعرضوا له في سجون القذافي، ومنهم من خرج بعاهة.”.
-٣-
إن سكوت كوادر الحركة الإسلامية، من البدريين واللاحقين، على هذا التخليط الحكومي لأمر الدولة والدين كيفما اتفق محير، ولكنه مفهوم. فإن قلنا إن سطوة القذافي وبوش، وقدرتهما الخارقة على إيذاء دولة الحركة الإسلامية، برر تسليم البشير إسلاميين ليبيين للأول، ووثائق ضد زملائهم للثاني فإن الموقف الصامت تجاه ما حدث لخاشوقجي الإخواني خيانة للمبادئ التي مات من أجلها الشباب الإسلاميون في أحراش الجنوب.
ومما يبدو أن الدولة دائماً تكذب الغطاسين الإسلاميين فيها بسترة النجاة الدينية، وتفضحهم عند كل أمر جلل يجبر هيئة علماء السودان للاجتماع، وإعانة الحكومة بالموقف الفقهي، والذي لا يبدو عند عمقه إلا موقف الإرادة السياسية وليست الدينية. فحين يخضع منظرو الحركة الإسلامية شؤون الدولة للدين إنما يهدفون أصلا إلى نحر معاني القرآن الكريم بسيف الرغبة في الحفاظ على “البزنس” لا بيضة الدين.
فليس هناك رابطة فكرية بين الأصولية الإسلاموية والحركة الوهابية حتى يشذ النظام الإخواني في السودان عن مواقف الإخوان الإقليميين، والدوليين، للارتزاق من حرب اليمن. وعلى النقيض تماما يسعى تحالف عاصفة الحزم بمعرفة النظام السوداني إلى اقتلاع جذوة الإسلاميين في المنطقة، وترغيب بعضهم حتى يقدموا دماء أبنائنا رخيصة في حرب لا ناقة للسودانيين أو جمل فيها.
ولكنه هو سودان المشروع الحضاري الذي انشغل فيه البدريون، واللاحقون من الحركة الإسلامية، برعاية البزنس الداخلي، والخارجي، وغض النظر جهارا نهارا عن اتباع مواقف مبدئية جاهرة لزملاء بلحاج، أو أبو مصعب الزرقاوي، أو خاشوقجي. ولا نعتقد أن هناك شئ يمكن ان يقدمه إسلاميو السودان حين يتعلق الموضوع بالمواقف الأخلاقية. فالذي هو مستعد لتسليم زملائه لديكتاتور قاتل مثل القذافي، ودعم إمبريالي كاره للإسلام مثل بوش، لا يحق له أن يقف أمام الناس ليحدثهم عن أمر من أمور الدين.new