فى (ممكلة النواعم)، صائد يبحث عن ثراء وفريسة تائهة تتجاذبها هواجس الضياع، وعندما يلتقى الطرفان في تلك الدائرة المظلمة، تفوح رائحة المسكوت عنه، حيث تجد الملامح الرقيقة تحولت إلى وجه بائس يلهث وراء عالم مجنون بلا وعي، تنتهي عنده القيم وتبقى والأفكار الشيطانية وحدها تجمل الركض خلفه حتى أخر محطاته، حيث الوقوع في شرك إدمان المخدرات وترويجها، وإنحراف بوصلة السلوك، في مملكة رقيقة الملامح، رغم حالة الصمت والتستر. حقائق مؤلمة لإنتشار المخدرات وسط النساء نكشفها عبر هذا التحقيق من الصياد حتى الفريسة (ضحية الادمان).

دائرة الشك

في العام الماضي ضجت محلية كررى الثورة أم درمان، بخبر هروب تلميذة ثانوي مع (شلة) شباب قبل نهاية اليوم الدراسي، وقضائها ثلاث أيام معهم في جزيرة بالخرطوم، تاركة وراءها التكهنات حتي فك لغز الاختفاء في اليوم الثالث بحضورها للمدرسة، وعند محاصرتها إعترفت بأنها هربت مع أصدقائها في رحلة ترفيهية حسب زعمها، ولكن بعد التحقيق في حادثة الإختفاء تأكد أن فتاة الثانوي وقعت في فخ المخدرات، وصارت الحادثة حديث سكان الثورة، وتناولتها بعض وسائل الأعلام، وإنتهى الأمر بفصلها من المدرسة، الفتاة الصغيرة والحديث الذي دار حول اختفائها أثار حفيظة أولياء أمور التلميذات وخوفهم من مآلات خطر المخدرات.

فتيات قاصرت وقعن في شرك الإدمان وأخريات في قمة نضوجهن العقلي وجدن أنفسهن فى شباك غير آمنة، فى أحد الداخليات الخاصة بالخرطوم ونحن نتقصى حقيقة تعاطي الفتيات للمخدرات، روت لنا مشرفة إحدى الداخليات الخاصة للطالبات بالخرطوم، ـ فضلت حجب اسمها ـ حيث قالت: “في كل مساء أقوم بدوام روتيني اتفقد فيه غرف الطالبات للتأكد من وجودهن، وأثناء تلك المهمة اليومية لاحظت أن أحد الطالبات لا تسمح لي بالدخول لغرفتها المعتمة طوال الوقت، وتكتفي بمواربة الباب وابلاغي بوجودها، وهكذا كل يوم، حتى بدأ الحديث عن سلوكها وبعد مراقبة تصرفاتها إتضح أنها تتعاطى مخدرات حتى وصلت مرحلة الإدمان وتم تبليغ أسرتها المقيمة خارج السودان لإحتواء حالتها”.

من أين لك هذا؟

السؤال أعلاه أحاط بحياة (ن) المطلقة التي تدير محل اتصالات بالقرب من سكنها بإحدى قرى ولاية النيل الأبيض، حيث اتسعت دائرة الشك حولها، بانها تروج المخدرات، وبدأت تظهر عليها آثار النعمة بتغير نمط حياتها الإقتصادي بدء من شكل المنزل حتى مظهرها، فاح سرها بين الناس، (ن) اختفت مدة من منطقتها وبررت أسرتها غيابها بالسفر للخرطوم، وسراً علم بعدها السكان أن (ن) تم القبض عليها بتهمة الترويج وزجت في أحد سجون الولايات.

وراء الجدران

منازل تقطنها أسر ونساء يعملن أمامها فى بيع الطعام والشاي، بمنطقة الثورة امدرمان خلف هذا المظهر، تدور عمليات البيع للسم، دون أي خوف من ملاحقة قانونية، رائحة الحشيش تشق أنوف المارة العابرين لذلك الشارع، المريب ومفاوضات البيع تجرى على (عينك يا تاجر) كالتي شهدناها، ولد شاب يطلب من بائع حشيش اعطائه حصته من (السم)، والأخر يطلب منه سداد ما عليه اولاً، تركت الشاب يتوسل للتاجر وسارعت الخطى هرباً من الشارع المشبوه.

(2000) حالة تتردد سنوياً على مركز تأهيل بالخرطوم

(مروج ومدمن) وبينهما أسرة تاهئة، تبحث عن خيط رفيع تنتشل به بناتها من ذلك الشبح، وللاقتراب أكثر من حقيقة الأمر طرقنا مركز حياة للتأهيل النفسي والإجتماعي والمختص في علاج حالات الإدمان فى السودان، وهو المركز الوحيد بالبلاد بحثنا في داخله عن رقم حقيقي لتردد الفتيات ولكننا لم نجد، بيد أن مديرة المركز الأستاذة رحاب شبو، أكدت وجود حالات إدمان وسط الفتيات لا تقل نسبته عن الأولاد، ونتيجة لذلك تقرر فتح مركز علاج للإدمان يختص بالنساء لأن هناك حاجة ماسة لذلك حيث توجد حالات تحتاج لتنويم ونسبة لضيق المركز لم يتمكنوا من اجراء ذلك مكتفين بتنويم المدمنين من الذكور فقط. وارجعت رحاب أسباب إدمان البنات نتيجة الفراغ الأسري الذي يعشن فيه وحالة العزلة التي تنتابهن خاصة الوافدات للدراسة بعيداً عن أسرهن. وكشفت عن وجود أكثر من (2000) حالة أدمان خلال عام حسب التردد بالمركز فقط لكل الجنسين.

كيف تعرف ان ابنتك مدمنة ؟

دكتور يوسف على يوسف، قرولو ـ الإستشارى النفسي، فتحنا معه ملف ترويج المخدرات والإدمان وسط النساء، من واقع المعالجة النفسية التى يجريها لكثير من الحالات، تحدث قائلاً: “الإدمان وسط النساء، لا توجد فيه احصائية نسبة لطبيعة المجتمع، والوصمة الإجتماعية التي تلحق المتعاطي، أضافة إلى أن الفتيات اللائي وصلن مرحلة الأدمان يذهبن للعيادات الخاصة، لذا يصعب احصاء الحالات بدقة، بجانب أن إدمان البنات أو الطالبات لم يصل مرحلة الظاهرة ولكنه في طريقه إلى أن يكون ظاهرة، ولا بد في حال ظهور أي تصرف غريب للشاب أو الشابة علامات عضوية وانفعالية وسلوكية، أذا شعرت الأسرة أن ابنتها بدر منها أي من التصرفات مثل قلة الرغبة في الأكل والنوم والعلامات الانفعالية كتغلب المزاج سرعة الانفعال لاتفه الأسباب والانطوائية والانعزالية والسرقة، وتدهور التحصيل الدراسي والغياب المتكرر بجانب مشكلات سلوكية تكوين صداقات جديدة مع أصدقاء لا يحبون الدراسة، الميل للخروج ليلاً التورط في مشكلات جنائية مثل المعاكسات والتفحيط، تغير الذوق في الأكل والملبس”.

(الشينة منكورة)

علي طريقة المثل الشعبي القائل (الشينة منكورة)، يقول (يوسف) إن معظم الأسر تنكر حقيقة إدمان أبنائها أو بناتها للمخدرات، وتبحث عن مبرر تعلق فيه المشكلة، وفي الغالب يكون رفقاء السوء هم (الشماعة). بعد أن تجد الأسرة نفسها أمام حقيقة حتمية لا مفر منها وهي إدمان ابنها أو بنتها، يحاول بعضهم وضع قيود صارمة مما يزيد درجة الضغط النفسي وأن المريض يحتاج للرعاية من المؤسسة العلاجية وأن تعترف الأسرة بأن الإبن مدمن، كثير من الابوين يبرئ نفسه ويعلق المسؤولية على الأم وهي تعلقها على الأب وهكذا يبدأ التنصل من المشكلة، ولكن لا بد من اللجوء للحل وهو تقديم المريض للمؤسسة العلاجية بناء على رغبته ثم تحفيز الأسرة لعلاجه ودعمه، وليس النظرة اليه نظرة مجرم”، وتابع “كما يخشى كثيرون ذكر ترددهم على  الطبيب النفسي خوفاً من ملاحقة الوصمة، رغم الوعى الكبير في هذا الجانب إلا أن الاسر تخشى ذلك. الأمهات اللائي يأتين مع بناتهن يكون لديهن سؤال واحد (ممكن بتى ترجع طبيعية تاني)، وهن يستحضرن مستقبل بناتهن الزواجي بعد أن يلاحقهن شبح مدمنة في حياتهن الإجتماعية”.

أعراض الادمان وأعراض السحر

ويروي د. يوسف أن أحد الحالات تم احضارها للعيادة وتُبين مدى جهل الأسر باعراض الإدمان وتعود التفاصيل إلى أن الفتاة في العشرينيات من عمرها، بدأت في الانزواء بعيداً عن أسرتها وفقدان الشهية، والتمتمة بمفردات غير مفهومة. شعرت الأسرة بالأعراض وذهب تفكيرهم إلي أن أبنتهم الجميلة أصيبت بالسحر، وسرعان ما أحضروا (شيخ) لعلاجها من السحر ومضى الوقت وحالتها لم تتغير، حتى سخر القدر يوماً أحد أقربائها وهو طبيب شكت له الأم ما أصاب ابنتهم، وعندما عاينها قرر اصطحبها إلى المستشفى واجريت لها فحوصات الدم وتبين أن هناك نسبة من المخدرات تجري في دمها، وقطع الطبيب الشك باليقين أن ما كانت تشعر به الفتاة أعراض إدمان، وضع الطبيب الحقيقة الصادمة أمام أسرتها التى انهارات، وعلامات الإستفهام زحمت تفكيرهم حول كيف ومتى أدمنت ابنتهم الجميلة المخدرات؟. الفتاة رفعت الستار عن حقيقية تعاطيها المخدرات مع شلة تعرفت اليها، ونبه (قرولوا) فى نهاية حديثه لنا  الأسر من التفرقة بين الرقابة والثقة، ومراقبة الابناء في مرحلة تكوين الشخصية (المراهقة) ولابد من التركيز على وفرة المال والحرمان والفراغ وهو مرتع خصب للوقوع في المشكلات السلوكية، ومراقبة الابناء لاتعنى القهر ولا الشدة وإنما هي القرب من الشخصية المنوط تقويمها، مثلاً أن تتم مراقبة البنات في الجامعات بزيارة غير معلنة، وإضافة لتقوية الوازع الديني.

علم الإجتماع

الدكتور أشرف أدهم، أستاذ علم الإجتماع السياسي والانثربيولجي بجامعة النيلين، بدأ حديثه حول القضية متفقاً مع دكتور (يوسف) بأن المخدرات وسط النساء ليست ظاهرة وأنما في طريقها إلي أن تصبح ظاهرة، ويعتقد أشرف أن السبب ليس التفكك الأسرى وتوتر العلاقات بين الزوجين، وأنما ضمن التغيرات الإجتماعية التى تحدث في مجتمع مشابه للمجتمعات السودانية أصبحت المرأة مستهدفه بالدمير النفسي والمعنوى والمادى بواسطة العديد من المؤثرات والتى منها المخدرات وبما أن المستهدف الأساسي فيها هم الشباب، نلاحظ أن المتعاطين للمخدرات وسط النساء هم الشابات، والعوامل التى تدفع لتعاطى المخدرات تعود للإحساس بالإحباط والمستقبل المظلم وعدم قدرة الشاب والشابات على تحقيق الطموحات خصوصاً وأن الشباب يحمل طاقة وطموحات أذا لم يجد وسيلة للتعبير سوف يكون فريسة للمؤثرات منها الانحلال الأخلاقي والتعصب الديني وتعاطى المخدرات والى أخره.