تعددت المقالات و التحليلات التي ظلت تستهدف استقصاء موقف القوات المسلحة ” الجيش ” من الحراك الذي يسود الشارع السوداني منذ أكثر من ثلاثة أشهر، شهود العيان والتقارير الحقوقية التي وثقت لحالة حقوق الإنسان في أسبوعها الأول أشارت  إلى مشاركة جهاز الأمن الوطني والمخابرات وقوات الشرطة في قمع الاحتجاجات بكل من ولايتي الشمالية ونهر النيل الأمر الذي قاد الى استشهاد عدد من المحتجين  ” الف رحمة ونور عليهم” وإصابة عدد آخرين بجراح جراء الاصابة بالاعيرة النارية ، ذات شهود العيان أشاروا لدور القوات المسلحة السودانية التي جاء تدخلها علي نسق “حماية المدنيين” الأمر الذي حد من سقوط المزيد من الضحايا ، يتضح ذاك الدور بجلاء عند مقارنة عدد الضحايا بكل من الولايتين “الشمالية ونهر النيل ”  وعدد الضحايا في 20 ديسمبر 2018 بمدينة القضارف التي  تحتل أعلى نسبة في قائمة عدد الشهداء والمصابين من بين مدن  السودان المختلفة ،  وفقا للاحصائيات المنشورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، تدخل الجيش  لحماية المدنيين من قوات حكومية تفويضها الأساسي حفظ الأمن وتنفيذ القانون ، كان له اثره إلى جانب اسباب أخرى في المسرح السياسي ، حيث أعقب ذلك تصريح نسب الي قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دلقو فحواه ان القوات التي تحت امرته لن تشارك في قمع المحتجين ، تلاه تصريح  لمدير جهاز الامن والمخابرات صلاح عبدالله “قوش ” في اليوم التالي حمل ذات المضمون  ، عند مقارنة ذلك بتصريحات الاستاذ علي عثمان محمد طه و الدكتور الفاتح عز الدين التي هددت بانزال الكتائب الي الشاع و القتل خارج نطاق القضاء نجدها  شكلت تفوقا للمؤسسة العسكرية  علي السياسية ” حتي و لو اعلامياً ” .

2

في ندوة بدولة قطر عام 1995 أفاد عراب الاسلاميين الراحل حسن الترابي  بالتحولات في بنية عقيدة القوات المسلحة السودانية  و التي وصفها بإحلال العقيدة الاسلامية ، لعل ذلك تم عبر استهداف الضباط غير الموالين سياسيا بالفصل من الخدمة و تمكين  حصري للموالين من الالتحاق بالمؤسسات العسكرية ،  أحد مظاهر ذلك الإحلال يمكن رصده في التغيرات التي انتظمت فرع التوجيه المعنوي حيث حلت جلالات ذات محمول ديني عوضا عن  تلك التي استمدت واقع وتاريخ و تجربة القوات المسلحة ، لابد ان نشير الى ان عملية التدجين السياسية لم تمضي إلى نهايتها لتدخل عدة أسباب يمكن إجمالها في ، أن الاستهداف كان للضباط دون الجنود ، الأمر الثاني  هو تأثير الأمر بانقسام  الإسلاميين إلى  فريقين ” شعبي ووطني ” في 1999 م وما تلاها  من احداث حول صراعات السلطة  مثال ما عرف إعلاميا بالمحاولة الانقلابية 2004 في العام ، كشفت الأحداث عن محاكمة بعض ضباط القوات المسلحة من الرتب الوسيطة على خلفية علاقتهم بمحاولة الانقلاب على السلطة  ، الأمر الثالث ارتبط  بالخلخلة التي أحدثتها اتفاقية السلام الشامل 2005 التي قادت إلى تراخي قبضة التمكين الحزبي ،  فصار الإلتحاق بالمؤسسات العسكرية إلى حد ماغير مرتبط بشرط الولاء الحزبي وحده  بل انضمت إليه أسباب أخرى  كالعلاقات الاجتماعية ، وأخرى مرتبطة بفلسفة إعادة هندسة المجتمع السوداني وفقا لما يمكن السلطة من الاستمرار محمولة علي سياسة فرق تسد   ،افرز ذلك  عن  رتب وسيطة خارج منظومة  الولاء  السلطوي والايدلوجي الي جانب قوام ضباط الصف والجنود .

3

بناء على ما سقناه في الفقرة 2  ، و  بتقصي حالة ضباط  الصف  والجنود فمهنيا هم على التزام بالقواعد العسكرية للمؤسسة بعيدا عن السلطة  ، أما من ناحية الامتيازات فقد تراجعت ليتميز عليها بشكل لافت قوات و مليشيات اخرى لاسباب سياسية .

بتقصي خطاب قيادة الحراك نجده لم يلامس بالتحليل واقع القوات المسلحة المرتبط بالرتب الوسيطة من ضباط الصف و الجنود بالرغم من انها استطاعت استنهاض الطبقة الوسطى  ، ربما لا تزال حذرة عطفا علي  العلاقة التاريخية الجيش والانقلابات العسكرية  .

4

برز انعكاس صراعات الحزب الحاكم ولا سيما بعد 2014 على المؤسسة العسكرية عبر  تواتر التغيرات في بنية القيادة و الاحالة المتواترة للمعاش ،  في تقديري انها احد مناهج سيطرة السلطة على المؤسسة العسكرية للحيلولة دون المشاركة أو التفكير في ممارسة أية أنشطة  بما يتعارض و مصلحة النظام ، تلك الاحالات و عند قراءتها من زاوية اخري فهي تشير الى أن مراكز  الانضباط و  المقاومة داخل المؤسسة العسكرية   ظلت حيوية  ما يعزز ذلك رفض بعض جنرالات  الجيش  تولي مناصب ولاة لبعض الولايات في يناير 2019 عقب اعلان حالة الطواري  .

5

المتابع للراهن السياسي يقف على ان هناك دعوات إعلامية للجيش  للانحياز إلى الحراك ، غياب موقف رسمي يدفعنا إلى محاولة تقصي المواقف المرتبطة بالأفراد  سواء في الخدمة أو خارجها . حيث نشر الاعلام البديل عن استشهاد كل  من طارق احمد و صديق هاشم من معاشي القوات المسلحة  في احتجاجات القضارف يوم 20 ديسمبر 2018 ،  في  24 ديسمبر 2018 تم محاكمة أحد منتسبي القوات المسلحة بمدينة الدمازين بالنيل الازرق ضمن  مجموعة من المحتجين ،  لاحقا في مارس 2019 و بالقضارف تعرض الملازم معاش هاشم بسيوني للتوقيف على خلفية مشاركته في تظاهرة احتجاجية  تجدر الاشارة الى ان ذات المصادر اشارت إلى أنه أحيل للمعاش  في العام  2013 لمشاركته بالحضور  في أحد أنشطة إحدى مؤسسات المجتمع المدني  .

6

في يناير 2019  بثت وسائل التواصل الاجتماعي تسجيلا نسب لأحد  منتسبي القوات البحرية  ، تناول فيها حادثة اعتداء بالضرب علي أحد الضباط أثناء تواجده في مكان عام  كانت قوات الأمن تفض فيه احتجاجا سليما  ، مضي التسجيل لكشف التوتر بين قوات البحرية والأمن للدرجة التي قادت إلى مواجهة مسلحة ، اشار التسجيل إلى أن ردة فعل بعض ضباط البحرية جاءت محمولة على التضامن العسكري  ” علاقة اولاد الدفعة ” ،مما جعل  مجمل الحدث لا علاقة له بموقف أي من الطرفين من حراك الشارع ، لكن ما يجدر  النظر إليه في سياق ذلك  تكليف قائد منطقة جبيت بشرق السودان بإدارة جهاز الأمن ببورتسودان حينها ، وهنا مربط الفرس  ! حيث تم الأمر دون أية إعتراضات في اشارة الي علو كعب الجيش .

7

أظهرت مقاطع  الفيديو على وسائط التواصل الاجتماعي ردة فعل لاشخاص أشير إليهم كضابط سابقين بالقوات المسلحة ” بالمعاش” على محاولات اقتحام بعض قوات جهاز الأمن لبعض المنازل تحت مبررات  تعقب محتجين سلميين  لاذوا بها ، بالرغم من مخالفة ذلك للقانون  الا انها من  الناحية السياسية تشكل  تراكم لحالة احتقان تجاه شريحة تعتبر ذات وزن في سياق المؤسسة العسكرية  التي  ظلت في سياق الممارسة   تحافظ علي  الانضباط و الاحترام تجاه منسوبيها سواء كانوا قيد  الخدمة وخارجها ، كما يجدر تذكر  عطاءهم الي جان  أنهم لازالوا يمثلون عظم الظهر عسكريا فى نجدة الدولة حين تعرض امنها للخطر او الكوارث الطبيعية.

8

الأحياء والمناطق السكنية التي صعدت كأيقونات في سجل الحراك الراهن  ظلت تتعرض لاستهداف  ممنهج يفوق مثيلاتها في قمع الاحتجاجات   ،مما يدفع بسؤال في سياق التحليل ما هو أثر العنف المفرط و الواسع النطاق  على العقيدة العسكرية لمنتسبي القوات النظامية على السواء من هم بالخدمة أو خارجها من الذين يقطنون داخل دائرة تلك الأحياء؟

في تقديري أن  الانتهاكات الموجهة تُرجح كفة حماية المحيط الجغرافي بمحمولاته المتعددة من الحماية الأنفس إلي الخصوصية …..  ، بالرغم من عدم تبلور ذلك  موقف معلن إلا أن استمرار ذلك   قد يمضي لإحداث خلخلة في العلاقة التي تقف على حياد الأوامر العسكرية.