عائشة البصري
يعيش السودان تحولات من الصعب التكهن بمآلها. فلم تمض بضعة أسابيع على انطلاق انتفاضة شعبية في نهاية السنة الماضية، حتى تحولت إلى مشروع ثورة قابلها النظام بثورة مضادة سوَّقها على أنها انقلاب.  وأمام الواقع الجديد الذي فرضه الظهور المفاجئ لمجلس عسكري انتقالي، تحول موقف ممثلي الثوار من ثورة ضد النظام إلى مشروع شراكة مع عساكره. فكيف حصل ذلك؟
من انتفاضة إلى مشروع ثورة
انطلقت شرارة الانتفاضة السودانية من مدينة الدمازين وعطبرة على خلفية تدهور الأوضاع المعيشية في البلاد، ثم سرعان ما امتدت نيرانها إلى باقي الأرياف والمدن.  وبوصولها إلى الخرطوم، التحمت بـ “تجمع المهنيين السودانيين” الذي قادها بكل التزام وبدون تردد، وهو مجموعة من النقابات والتحالفات كانت قد أعلنت عن تشكيلها السنة الماضية للدفاع عن حقوق المهنيين.
لحق الركب عدد من الأحزاب والقوى السياسية والمدنية والحركات المسلحة ووقعوا على وثيقة باسم “إعلان الحرية والتغيير”.  وطالب ما بات يعرف بـ “قوى الحرية والتغيير” بالتنحي الفوري للرئيس عمر البشير ونظامه وتشكيل حكومة انتقالية من كفاءات وطنية لأربع سنوات، ووقف الانتهاكات وإلغاء القوانين المقيدة للحريات.
وبهذا تحولت الانتفاضة التلقائية إلى مشروع ثورة تسعى إلى ” الخلاص من نظام الإنقاذ الشمولي”، وإحداث تغييرات جذرية في البنى المؤسسية للدولة والمجتمع وفقا لمبادئ وقيم ديمقراطية.  وبتضافر هذا المشروع مع زخم الاحتجاجات أصبحت الثورة تشكل تهديداً وجودياً بالنسبة لنظام ترأسه الجنرال عمر البشير لثلاثين سنة، بعد الانقلاب العسكري الذي نظمته الجبهة الإسلامية بزعامة حسن الترابي.
وما يجعل مشروع الثورة السودانية في قمة الصعوبة، كونه يسعى إلى إسقاط نظام ذي رأسين إسلاموي وعسكري، خلق داخل الدولة دولتين متطرفتين: دولة الإخوان ودولة المليشيات. فدولة الجبهة الإسلامية العميقة التي أسسها  الترابي وحكمت عبر الحزب المؤتمر الوطني القائم، ما زالت تُحكم قبضتها على كل مؤسسات الدولة والمجتمع من الجيش إلى الإذاعة والتلفزيون مروراً بالقضاء وهياكل الاقتصاد وموارد البلاد بما فيها النفط والذهب والأرض.
في المقابل، أسس عمر البشير دولة المليشيات القبلية بالموازاة مع الأجهزة النظامية، وقام بترقية مليشيات “الجنجويد” المتهمة بجرائم ترقى إلى الإبادة الجماعية بعد أن غيَّر اسمها  من “حرس الحدود” الى “قوات الدعم السريع” وعزز أعدادها وعتادها ونشرها في معظم أنحاء البلاد ثم حَوَّلها إلى قوات مرتزقة في حرب اليمن. ولضمان ولائها له واستقلالها عن أجهزة الدولة، مَلَّكَها النظام أراضي ومشاريع استثمارية وشركات بما فيها شركة لتعدين عن الذهب.
هذا هو النظام الذي قامت الثورة من أجل إسقاطه، فواجهها بقتل العشرات من المواطنين واعتقال وتعذيب المئات وإعلان  حالة الطوارئ. لكن الشعب قاوم وأصر على مواصلة ثورته إلى أن شق موكب 6 أبريل طريقه إلى مقر القيادة العامة للجيش بالخرطوم.
انقلاب الجيش على الثورة
رغم ما تم تداوله البعض من تلميع لصورة الجيش السوداني في الآونة الأخيرة، فإن هذا الأخير لم يحمِ الثورة، بل إن عدداً من صغار الضباط والجنود والشرطة هم الذين انحازوا إلى الشعب وحموا الثوار. أما جنرالات البشير فلقد وقف معظمهم وقفة نيرون وهو ينظر لروما وهي تحترق.
بعد ستة أيام من اعتصام الثوار في الميدان، فاجأت قيادة الجيش الجميع بادعاء أنها قامت بانقلاب عسكري من أجل تحقيق مطالب الثورة.  وبالغت في خداعها حين ظهر الجنرال عوض ابن عوف ليقرأ بتلعثم بياناً يقول فيه “لقد اقتلعنا ذلك النظام”، وكأن النظام شجرة موز أو كأنه لم يكن في ذات اليوم نائباً لرأس النظام ورفيق دربه وشريكه في كل الفظائع. ثم أعلن ابن عوف عن تأسيس مجلس عسكري يقود الفترة الانتقالية لمدة سنتين وإلغاء الدستور وغيرها من القرارات التي وضعت الجميع أمام الأمر الواقع.
فَرِح الثوار لاختفاء البشير، واستاءوا من ابن عوف وبدا وكأن قوى الحرية والتغيير لم تكن مستعدة لسيناريو ما بعد الدكتاتور،  إذ لم تكن هناك سلطة مدنية جاهزة لإجبار المجلس العسكري على التنحي والبدء فوراً في الإشراف على تطبيق برنامج الإعلان الثوري.  ورغم أن قيادة الثورة وصفت المجلس بأنه غير شرعي، وأقرت بأنه يمثل امتداداً للنظام وبأن لعبة الانقلاب مجرد “مسرحية” ثم طالبته بالتنحي، إلا أنها استجابت في النهاية لدعوته للحوار والتفاوض على نحو أكسبه اعترافاً إقليمياً ودولياً وإن كان محدوداً.
وبدا تخبط قوى الحرية والتغيير واضحاً منذ أن طالبت بتغيير رئيس المجلس العسكري وبعض أعضائه بدعوى أنهم يشكلون رموزاً للنظام، عوض أن ترفض المجلس جملةً وتفصيلا.  واستغل هذا الأخير هذا المطلب بدهاء فاستبدل السيّء بالأسوأ، وأصبحت قيادة المجلس تزخر بأكثر الجنرالات تورطاً في جرائم النظام.
فكل من الرئيس الحالي للمجلس، الجنرال عبد الفتاح  البرهان والطيار صلاح الدين عبد الخالق، أحد كبار أعضاء المجلس، شاركا بشكل مباشر في الحروب العنصرية التي شنها النظام ضد المواطنين المنحدرين من أصول غير عربية، وأودت بحياة مليوني شخص في جنوب السودان وما يقدر بنصف مليون في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق.
ففي الوقت الذي كان  فيه البرهان يشرف على جرائم حرس الحدود والدفاع الشعبي وغيرهم من قوات النظام، كان الطيار صلاح عبد الخالق يقصف المدنيين دون أن يرف له جفن.  في لقاء له مع ديكلان وولش مراسل جريدة نيويورك تايمز نُشر يوم 23 نيسان/ أبريل الماضي، لم يتردد الجنرال الطيار في الدفاع عن جرائم سلاح الجو السوداني.
أما محمد حمدان دقلو (حميدتي)، نائب رئيس المجلس، فلقد داع صيته في العالم لِما اقترفته مليشياته الهمجية من جرائم وثقتها منظمة هيومن رايتس واتش الأمريكية في تقرير صدر لها في 2017 تحت عنوان: “رجال بلا رحمة”.
هذه هي القيادة الحالية للمجلس العسكري التي حرص البشير على ترقية كل فرد منها وأدخلها دائرة الولاء التي لا يَلِجُها إلا ركائز النظام؛ هذه هي القيادة التي قبلت بشراكتها القوى الثورية التي ما زالت تحلم بإحداث قطيعة مع النظام.
الثورة على كف عفريت
تتوالى جولات الحوار والتفاوض حول السلطات الثلاث للمرحلة الانتقالية (مجلس السيادة، مجلس الوزراء، الهيئة التشريعية). واستجاب المجلس العسكري لجل المطالب شرط أن يتولى رئاسة مجلس السيادة طيلة الفترة الانتقالية.  وقبلت قوى الحرية والتغيير بشراكة عسكرية-مدنية في مجلس السيادة وهي تعلم أن العسكر شكل في تاريخ السودان أكبر عائق في طريق الديمقراطية وأنه يستحيل تحقيق شعار الثورة “حرية، سلام وعدالة” بالشراكة مع جناة يتشبثون بالسلطة لإطالة الحروب والإفلات من العدالة.
طرحت قيادة الثورة آخر مقترحاتها وهي تنتظر رد المجلس الذي سيوافق على أية وثيقة تضمن له الحفاظ على السلطة، ولو تم تمثيله بجنرال واحد يكون تلك السوسة التي تنخر عظام الثورة. وهذا ما جعل عدداً من السودانيين والمراقبين للشأن السوداني يتساءلون عن أسباب تجاهل قوى الحرية والتغيير للأصوات التي ترفض الحوار مع المجلس، ناهيك عن شراكة تشكل قنبلة موقوتة من شأنها  أن تنسف مشروع الثورة.
ويُعزي البعض هذا الموقف إلى ضعف خبرة قيادة الثورة، في حين يرى آخرون أنه ربما تم اختراقها من طرف حلفاء النظام. بعيداً عن نظريات المؤامرة، من الواضح أن ما أضعفها هو كونها تضم عدداً من الأحزاب والقوى التي تفتقد إلى المصداقية، لا تتبنى مواقف تقدمية ولا تؤمن بالتغيير الجذري لنظام الحكم أو تتردد فيه.
ويكفي النظر إلى لائحة الموقعين على إعلان الحرية والتغيير، للتأكد بأنها تضمّ عدداً من السياسيين الانتهازيين الذين يجيدون اللعب على كل الحبال ولهم تاريخ طويل في شق الصفوف عبر تحالفاتهم مع النظام.
لكن ومن حسن حظ السودان أن الشعب الذي أشعل فتيل الثورة لم يقل كلمته الأخيرة بعد.  فما زال الثوار يتوافدون على ميدان الاعتصام من كل ربوع الوطن وما زال الشباب يحرسون متاريسهم وينصبون خياماً للاعتصام طوال شهر رمضان إن لم يتم الإعلان على نهاية حكم العسكر.
سترينا الأيام المقبلة إن كان الشارع أو قوى الحرية والتغيير أو غيرهم قادرين على تدارك الموقف، لوضع حد لشراكة مريبة مع أعداء الشعب والديمقراطية وإنقاذ ثورة لم يشهد لها السودان مثيلاً.