ما يحدث في السودان حالياً هو، بلا شك، فصل من فصول ثورة لم تكتمل بعد. وكي يتم التعاطي معها بشكل واقعي، يجب تحليل ذلك في سياقه الصحيح. هذه الثورة ليست مثل سابقاتها، التي استهدفت النظام السياسي دون أن تتعداه إلى البنية الاجتماعية الشاملة؛ وبقدر عمق الثورة وشموليتها يأتي التعثر والتعقيد المرتبطان بتناقضات الموقف من الثورة، وأهدافها وآلياتها.

نعم تشارك غالبية السودانيين، وقواه الحية في هدف الاطاحة بحزب المؤتمر الوطني من سدّة الحكم؛ لكن الفرز والتباين يحدثان كلما ذهبنا عميقاً؛ هنالك مجموعات مقدرة مرتبطة مصلحياً مع الدولة، وبالتالي لن ترضى بتفكيك مؤسساتها وإعادة هيكلتها طالما ستفقد مصالحها المادية. وتزداد مساحة هذه المجموعات في حال كان المُستهدف بالتفكيك هو النسق الاجتماعي والثقافي لأنه يمثل الحاضنة الأيدلوجية لها وحامي مصالحها الرمزية وتفوقها الاجتماعي، ولن تقبل المساس بها؛ أما الفرز الشامل، فسيحدث بالطبع عندما يتعلق التغيير بمشروع الدولة الرسمي: بين مجموعة تهدف إلى إعادة انتاج المشروع الرسمي، ومجموعة تهدف إلى تغييره كلياً.

إذا اسقطنا هذه الفرضية على المشهد السياسي سيُعاد ترتيبه بصورة غير ما تراه العين على السطح. الظاهر أن هنالك مجموعات متباينة تتصارع على تشكيل المشهد السياسي وهي؛ قوى الحرية والتغيير، وتعبر عن غالبية الشعب السوداني؛ المجلس العسكري، ويعبر عن المؤسسات العسكرية، والأمنية، وبعض المجموعات السياسية والاجتماعية المرتبطة بالنظام السابق وبقاياه المنتشرة في كل مفاصل الدولة ومؤسساتها؛ بالإضافة إلى مجموعات أخرى لم تكن ضمن هاتين المجموعتين، مثل الحركة الشعبية (قيادة الحلو)، وحركة تحرير السودان.

قادت التحليلات والفعل السياسي اللذان يستندان على ظاهر المشهد هذا إلى الإرباك، وستقود إلى مزيد من التشويش. فالصورة الحقيقة تبدو مختلفة تماماً. بإمعان النظر، سنرى أن هذه الكيانات المختلفة ظاهراً تتشابك باطناً، خاصة عند الإجابة على سؤال: هل كل هذه المجموعات لها مصلحة حقيقية في عملية التغيير الشامل؟ بمعنى آخر، هل هذه المجموعات لها مصلحة في تفكيك المشروع الرسمي للدولة، وليس فقط تفكيك دولة الانقاذ؟ الإجابة قطعاً لا. وعلى هذه البداهة يمكن إعادة رسم الخارطة السياسية حتى تستبين الأمور، وحتى يحدث الفرز (الناعم)، على الأقل نظرياً في الوقت الراهن، لأن الفرز الفعلي (الخشن) في مرحلة الانتقال سيرجح احتمال الانهيار والتفكك، وبالتالي لا مناص من العبور بالصيغة الحالية، بما تحويه من تشابكات وتناقضات، تبدو ظاهرياً منسجمة، وهي على العكس من كذلك. فالثورة الشاملة تتطلب فرز المشاريع؛ لكن إذا عدنا بالنظر إلى اتفاقية السلام الشامل “نيفاشا” بين النظام البائد والحركة الشعبية لتحرير السودان في العام 2005م، نرى أنها ورغم ضرورتها وأهميتها إلا انها خلقت اصطفافاً جديداً لتحقيق أهداف قصيرة المدى، على أساسه تشكَّل المشهد السياسي، وضاعت فرصة أخرى للفرز في انتخابات 2010. وفي كل الأحوال كانت إرادة الخارج هي الأقوى.

الآن عادت إرادة الخارج (الاقليمي) بقوة لتُفرَض على المسرح السوداني من أجل تحديد وجهة التغيير، وذلك بمحاولة تمكين العسكر للإبقاء على السودان مسلوب الإرادة حفاظاً على مصالح اقتصادية وأمنية؛ والأهم من ذلك، افشال اكتمال عملية التغيير الشامل حتى لا يكون نموذجاً ودافعاً لكل شعوب المنطقة، من الخليج إلى مالي.

وحتى يكتمل هذا السيناريو، ورث المجلس، بسبب عزلته الشعبية، كل تَرِكة النظام السابق (مؤسساته السياسية والأمنية)، وذلك بإيعاز ودعم مباشر من سادته في المنطقة. لهذا فإن الصيغة المفضلة لديه هو الاتفاق مع بعض قوى الحرية والتغيير وبقايا النظام السابق لتشكيل الحكومة والوصول بها إلى انتخابات تُبقي على الوضع كما هو، وهو سبب تعنته في الاتفاق. وحسب القراءة الواقعية، فإن الراجح هو ألا يوقع المجلس العسكري على الاتفاق، أو أن يوقع عليه بغرض يقوضه عبر افتعال مشكلة أمنية (محاولة انقلابية، تفجيرات، اغتيالات… وغيرها).

المعركة الآن واضحة؛ هي معركة الشعب السوداني وقواه الحية من أجل إنجاح مشروع التغيير الشامل الذي لن يتأتى إلا باكتمال استقلال القرار الوطني، وتحقيق السيادة الوطنية؛ ولكن هذه المهمة لن تكن سهلة، فالثورة المضادة (أحد دوائر النظام السابق) تحكم قبضتها رويدا رويدا، من أجل الانتقام، وبخاصة من داخل الدعم السريع وقائده حميدتي. وربما نجحت العملية، فيما تبقت المواجهة؛ لكن في نهاية المطاف سيكون هو الخاسر.

يعكس هذا الأمر من ناحية أخرى الصراع الخفي بين المتحكمين في الشأن السوداني، وخوفهم من التغيير في السودان الذي من شأنه ترتيب الأوضاع في المنطقة، وربما العصف بكل التحالفات والمحاور الإقليمية، وإعادة تشكيلها من جديد. ما نحتاجه الآن هو تفويت الفرصة على الذين ليست لهم مصلحة حقيقية في التغيير الشامل، وذلك لن يكون من دون خطاب نقدي بناء، مع ضرورة تقوية وحدتنا القومية وتحويل تناقضاتها إلى انسجام؛ أما من يشذَّ فلا أسفاً عليه، فقد آن الأوان لاتخاذ موقف وطني بعيداً عن المكاسب الضيقة.

أما الخطوة القادمة، في حال رفض المجلس العسكري الاتفاق، لا بد أن تكون تجميد التفاوض معه والدعوة إلى مؤتمر لقوى الحرية والتغيير، والقوى الأخرى دون استثناء، لتحديد مطلوبات التحول؛ مع دعوة صريحة للدول التي تتدخل في الشأن السوداني بالابتعاد عن سيادة الدولة والثورة؛ هذا مع قبول المبادرة الإثيوبية الأفريقية، وأن يكون رئيس الوزراء الاثيوبي آبي أحمد من يتولى الوساطة (دون تفويض لأي شخص).

 

مستور أحمد محمد، نائب رئيس حزب المؤتمر السوداني

17 يوليو 2019