بقلم : محمد بدوي

بالنظر إلى واقع الدولة السودانية الحديثة يمكن رصد سجل ضخم للصراعات القبلية ظل يمثل احد افرازات فشل إدارة دولة ما بعد الاستقلال المرتبط بإدارة التنوع و الموارد و التنمية والمشاركة السياسية او بتعبير اخر  تركة اهمال الحكومات المركزية لعلاقة المواطنة وما يترتب عليها من حقوق دستورية ، ذاك التراكم ظل يدفع  إلى تراجع في مفهوم الدولة في أذهان السودانيات والسودانيين مقابل ارتقاء الكيانات القبلية التي مثلت وحدات تمحور دورها  في بسط الحماية لمنسوبيها  سواء الحماية الفعلية أو المناصرة لقضاياهم ، هذا إلى جانب الدور المالي عن طريق المساهمات في تكاليف العلاج أو دفع الديات أو تكاليف عقد الصلح المادية و الفنية المستندة على القانون العرفي او الاعراف  ، هذا قد يفسر دوافع الإسلاميين السودانيين خلال فترة سيطرتهم على السلطة بالكيانات و العلاقات القبلية حتى بلغ الأمر تخصيص وزارة اتحادية ” الشئون الاجتماعية ” التي تناوب عليها كل من  الأستاذ علي عثمان محمد طه و الدكتور علي الحاج محمد ،  عملت هذه الوزارة على  تنفيذ سياسة الهندسة الاجتماعية لتصب في تعزيز السيطرة السياسية على مفاصل  مكونات الدولة ، فعلى سبيل المثال في العام 1995  تم ابتداع وظيفة الامير في سياق هياكل الإدارات القبلية كوظيفة جديدة ، حيث يمثل الأمير الممثل السياسي للقبيلة مع الحزب الحاكم ،  سياسة فرق تسد مثلت فلسفة الدفع بالقبائل إلى صراعات محورها الموارد ثم الحدود الادارية التي نتجت عن منح الادارات الحكومية او تقسيم الاقاليم الي وحدات محافظة او محليات والتى قُصد بان تلامس  الحدود الادارية الحدود المرتبطة ذهنيا و فعليا بالملكية والحقوق التاريخية المرتبطة بالارض او غيرها من الموارد  او بتعبير اخر تنفيذ خطة الهندسة القبلية وفقا للخريطة السياسية لمصالح سلطة الاسلاميين انذاك  وفي تقديري مثل صراع الرزيقات والمعاليا بولاية شرق دارفور نموذجا يمكن الاشارة اليه في هذا السياق ، كما هدفت الوزارة  لجعل القبائل و علي نحو خاص  القبائل التي تقطن في مناطق حدودية و علي وجه الدقة في التماس بين السودان ودولة جنوب السودان (الحالية) تبعد عن الاستقرار عبر دفعها الي الانخراط في صراعات قبلية مسلحة  بهدف  انهاكها و شغلها من الالتفات الي مطالبها التنموية و لا سيما التي تقطن في جغرافيا الموارد مثل حقوق النفط و دعنا نشير علي سبيل المثال لا الحصر  الي صراعات بطون المسيرية الممتدة من (1993-2015) و حقوقها الدستورية  وعدم  الانتباه الي مصادر قوتها أو المشاركات المرتبطة بالتنوع كقوة .

العزاء الخالص  لأُسر و ذوي القتلى والجرحى فى الصراع الأخير بولاية البحر الأحمر بين مجموعات من قبيلتي النوبة والبني عامر، و الشفاء العاجل للجرحى ، في تقديري أن ما حدث رغم دمويته  ليس بحدث جديد بل متجدد ومتشابه الجذور والاسباب يمكن رصد تطابقه في كل أنحاء السودان كنمط متصل و ذلك لتوحد دائرة الأسباب و التي في صورتها الكلية ترتبط بعوامل اقتصادية التنافس على الموارد وسوق العمل  وأسباب أخرى مرتبطة بالتراجع الاقتصادي وسيطرة الإسلاميين على رأس المال و تراجع الخدمات و النزوح نحو المدن ، اضف الى ذلك أن المواطنة التي تشوبها الكثير من القنابل الموقوتة المتعمدة منذ الاستقلال كنتاج للتمييز  المرتبط بأسباب اجتماعية و تاريخية ، من ناحية سياسية يمكن القول بان ادارة الحدود الجغرافية التي تزامنت مع الاستقلال ظلت اقصر قامة من النظر إلى عمق التنوع والمشتركات التي تربط الشعوب السودانية وامتداداتها التي تم الفصل بينها جغرافيا وفقا لحدود سياسية في  خارطة العالم .

مع ذلك ظلت ادارة النزاعات تتميز بمنهج مختلف قبل العام 1989م حيث ظلت الأعراف هي الأساس ، حيث  كان دور الدولة محايدا نسبيا يتمثل في إيفاد الخبراء للانضمام إلى مجالس الصلح  ، في الغالب يتم اختيارهم من القضاة وضباط المجالس الإدارية المتقاعدين  ممن عملوا في المناطق التي تشهد الاحداث  ، لهم حق الحضور كخبراء وشهود دون التدخل في إرادة الأطراف التي يقف الالتزام فيها قبولهم  الاختياري و الواضح بمجالس الصلح و تفويضه  والالتزام الكامل من الأطراف  باحترام ما يخرج منهم من قرارات نهائية ، لكن في ظل فترة حكم الإسلاميين تغير دور الدولة إلى تدخل السلطة السياسية أو وكلاء السلطة ممن ينتمون إلى الطرفين هذا مع التغيير في طبيعة الادارة الاهلية بالانتماء السياسي و زجها في الصراعات بالتسليح في سلك المليشيات الأمر الذي جعل من السلاح عنصرا يدفع إلى دموية الصراعات ولو  كانت بسيطة الأسباب  ، الإجبار على الصلح السياسي والذي صار منهجه هو حصر الأضرار بين الطرفين بما في ذلك القتلى او الجرحي الذين صاروا يقومون بالمال سواء الديات أو تقييم الجراح بأضرار مادية ، لينتهي الأمر إلى إعلان أحد الأطراف تضرر بناء على مفاضلة الأكثر ضرراً وفقا للمعادلة المحاسبية ، ليعقب ذلك عملية أشبه  بالمقاصة المالية ليتحول اطراف النزاع الى دائن ومدين  على نسق حسابي بحت، كهذا تحول منهج الصلح الي دين علي احد الاطراف المنهكة اصلا من غياب دور الدولة في الخدمات ليظل الدين مؤجلا كشرارة اشتعال الصراع مجددا وهو أمر يصب في سياسة الإلهاء و استنزاف الموارد التي تبقي القبائل او الافراد بعيدين كما اشرنا من المطالبة بحقوقهم

فى ظل المدنية التى يطالب بها السودانيات و السودانيين يتطلب الأمر التفكير في أدوات لرفع الوعي حول المواطنة والحقوق وهذا من جانب بالاضافة للتخطيط التنموي من قبل الدولة للوفاء بالتزاماتها تجاه علاقات المواطنة والخدمات اضف الى ذلك حل الأسباب المرتبطة بالأرض كعامل مساهم للصراع القبلي بالسودان وإبعاد النفوذ السياسى من الانحياز للأطراف المتصارعة واعادة الثقة فى دور الدولة بتوفير الحماية وفقا للقانون والدستور وغير ذلك من دورها تجاه تطوير سبل حياة الناس .