بقلم: دكتور الوليد آدم مادبو

إنّ إحتفائية 17 أغسطس تعبر عن إنتصار زائف سعت من خلاله فئة متواطئة تقنين صورة السودان القديم وإن بدت رموزه مُجهدة ومُحرجة إلاَّ أنها لن ترعوي عن محاولتها لإعادة تسويق نفسها بالتواري خلف يافطات حداثوية. كل شئ يحيل إلي وراثة المؤتمر الوطني. بدءاً بالفنان، مروراً بالخطابات فاقدة الصدقية، والتصفيق والتهليل والتكبير، غياب الشرائح الأكثر تضرراً من جرائم الإنقاذ وحضور الكائنات الأكثر استفادة منها، وانتهاءً باختذال المرأة السودانية ودورها الجسور في الثورة وتضحياتها ونبوغها في شكل إيماءات صوتية وحركات جسدية لمذيعة فاقدة الهوية، كانت مثل بعض المُتحدثين الآخرين مُعارضة لتوجهات الثورة حتي أخر لحظة. لا أعتقد أن ذلك كان مجرد هفوة، إنما كان أمراً مُتعمّداً قصد منه مُعدي البرنامج تثبيت الدلالة الرمزية التي تُهيء لمجموعة من سواقط المؤتمر الوطني ومرفودي الأحزاب القومية وراثة الدولة الإنقاذية. هكذا وبدون حياء.

 

في تلكم اللحظة سقطت متلازمة مركز/هامش وإضمحلت وإنتفت تماماً، فالكل أصبح مهمّشاً إذ إستولت فئة تربط بين افرادها مصالح إقتصادية وسياسية علي السلطة وأزمعت السيطرة علي كافة الأنشطة مستقلة الشرعية الثورية، التي ومن عجب لم تُوظف لإعادة هيكلة الدولة أو تغيير بنية السلطة، إنما وظفت لتقنين وضع ذات الفئة المتنفذة تاريخياً وتقليدياً، مع إختلاف في قدرة هذه الفئة على التحكم في المشهد حتى نهايته. لقد نجحت قحت برعاية كهنوتية، وتسهيلات أمنية لم تعد خافية على أحد، على التحكم في الثورة وهي الأن تسعي لإفراغها تدريجياً من محتواها الروحي والفكري. لكن هيهات فالثوار واقفون لها بالمرصاد. وسيأتي سيلاً عرمراً يقتلع هذه البنايات الفاسدة والمسوسة من قواعدها.

 

عندما تقرأ الوثيقة الدستورية المُحتفى بها تصعق إذ تكتشف الاتي:

 

  • لم يتم ذكر الإبادة الجماعية إنما تنويه لأهمية “تشكيل لجنة لإجراء تحقيق … في الانتهاكات التي جرت في الثالث من يونيو ٢٩ رمضان”.
  • لا يوجد ذكر لفكرة التمييز الإيجابي لأصحاب الظلامات التاريخية بل إمعان في إقصائهم من المراكز التنفيذية والتشريعية من خلال الإلزام لرئيس الوزراء الاختيار “من قوائم مرشحي قحت” التي لا يوجد من ضمنها ممثلا لهذه الكيانات.
  • لا توجد إشارة لأهمية تفكيك الدولة المركزية ومراجعة بنيتها العنصرية انما هناك تعويل فقط على أهمية “تفكيك بنية التمكين” كأنما الظلم بدأ مع الاسلاميين.
  • لا يوجد ذكر للديمقراطية الفدرالية التي تمثل أشواق الجماهير فقط الإشارة إلي “جمهورية السودان دولة لا مركزية”، غير مفهوم وغير معلوم ان كانت لا مركزية ادارية لا مركزية سياسية أم الاثنان معا.
  • تم إغفال ذكره العلمانية تماماً بمعناها المؤسسي وليس الوجودي، علماً بأن الانعتاق الذي حدث للسودانيين من الخرافة هو أهم منجزات الثورة. ولذا فيلزم تقنين هذا المبدأ لئلا نرجع إلى حانة الإتجار بالدين.

 

بالرغم عن كل ما ذكر أعلاه، فإنني أقر أنه لا يمكن الخروج من هذه الورطة التاريخية إلّا بالتعويل على المدنية والمزيد من الحرص على ترسيخ قيم الديمقراطية، لأننا إنّما وصلنا إلي هذا القاع من خلال الإتباع لدعاة الحمية ومروجي الفتن القبلية والدينية. فقد ظل “الليغ السياسي” السوداني يستخدم البندقية لحسم الخلافات السياسية والثقافية وحتى الإجتماعية. وهو لم يلجأ إلى المدنية إلّا عندما وهنت قواه العسكرية واستنفد كافة قواه الفكرية. فالتعويل على المناخ الذي خلقته الثورة أوجب من التعويل على وثيقة دستورية تخطت كل القضايا الأساسية والتاريخية، وذلك بتثوير المفاعيل الثقافية والاجتماعية والفكرية بعد ان أجهضدت تلكم السياسية والعسكرية.

 

يتصدر اليسار المشهد السياسي وللمرة الثانية في التاريخ مستخدماً واجهات عديدة ومتنوعة، بل مستغلاً ضعف المجموعات الأخري علي التنسيق، إذا لم نقل ضعف الإستيعاب أو الإستقراء لحيل إستخدمت في إكتوبر وإبريل. لا يدع الشيوعييون حيلهم في التأمر والتذاكي على الناس، وها هم يهددون بعدم اشراك عضويتهم في الفترة الانتقالية ويتراجعون رغم أن الكل يعلم استمساكهم بخيوط اللعبة وحرصهم على تصدر “الليغ السياسي” للمشهد. إنّ عدم ظهور قادة الحزب الشيوعي في يوم التوقيع يذكرني بمقولة حسن الترابي مخاطباً البشير:”سأذهب الي السجن حبيساً، وتذهب الي القصر رئيساً”. تخلف القادة ليوهموا العامة أنهم معترضين فيما تقدم منسوبوهم ليملأوا المقاعد الشاغرة .

 

إذن، نحن أمام حقبة جديدة من التمكين لا تختلف عن الحقبة السابقة إلا من حيث الوطنية والأهلية الأخلاقية تحديداً النزاهة – للمُتمكنين. أمّا الأخلاق بمعني الإنصاف والعدل وتوخي الصدق تجاه التعامل مع واقع البلاد المُتبدل والمُتغير، فخصلةُ تكاد تنعدم وسط هذه النخب الأيدولوجية التي ما فتئت تعتقد في فكرها الصواب حتي أردت البلاد وأرجئتها إلي ساحة الخراب. لقد فات هؤلاء إن الواقع السياسي والإجتماعي، حتي العسكري قد تبدل إلي غير رجعة. فلم يعد من الممكن للنخبة السياسية أن توظف وكلائها في تخدير جماهير الريف مستخدمة الدين، كما لم يعد من الممكن تلهية الشعوب السودانية عن طموحها في الحرية والسلام والعدالة بلافتات قومية.

 

وإذا كانت الدولة المركزية قد إستخدمت الجيش القومي في قمع شعوب الهامش، ولمّا عجزت برعت في توظيف تلكم المكونات الإجتماعية ضد بعضها البعض، فالمعادلة اليوم قد إختلت في صالح شعوب الهامش التي لم تعد لها رغبة في قتال بعضها البعض، وقد توفر لها الوعي الذي يمكن أن تسخره لخوض المعترك مدنياً وليس عسكرياً. إن مفهوم الهامش قد تجاوز الإطار الجغرافي المعهود، بمعني غرب السودان، وتجاوز الإطار الإجتماعي، ليشمل الإطار الثقافي الذي تتشكل فيه الوقائع حسب ما يتصوره الصانع.

 

يصعب علي السياسيين – خاصة اولئك الذين أمضوا وقتاً في التدافع مع الإنقاذ – أن يتخلصوا من تأثيرها أو الفكاك من ذهنيتها التي جُبلت علي التآمر وتعمد الإقصاء في الفعل السياسي. من هنا يجب أن نتفهم معاناة الجبهة الثورية في التعامل مع هيئة سياسية مثل قحت أغفلت السردية التاريخية للهميش، بل تصورت أنها مُوكَلة من قبل الجماهير للتفاوض في قضاياهم كافة – بمعني أن لديها وكالة حصرية من قبل الثوار– دون النظر في أهلية الموكَّل والمعاناة النفسية للمُوكِّلين من جراء هذا الفعل الإقصائي الإليم، الذي لا يقر بأن الثورة فعل تراكمي حازت قحت أخر راياته وإن تك أشرفها، بل أيضاً يتسرع جمهورها لوصف قادة الجبهة الثورية بأنهم إنتهازيين ونرجسيين أرادوا أن يستغلوا هذا الظرف العصيب لفرض رؤاهم علي المفاوضيين.

 

لماذا لاتُكال التهم للأخرين المتوكرين الذين عوض عن التركيز والتعويل علي المنهجية والأسس المعيارية في الإختيار، ركزوا علي تثبيت حصتهم/نسبتهم في الجمعية التشريعية. وبذات العقلية التي تتبع سبلاً إنتقائية في إستبعاد كل من له أواصر قربي إستمرت مع الإنقاذ حتي نهاية حكمها. وأنا أعجب، هل هنالك فرق بين دخول الإنداية أول النهار وأخره؟ لا أعتقد. بل يود البعض التوهم بأن الأنقاذ تمثل حالة الإستثناء في التعامل مع قضايا الهامش، وتفكير نخبها التي بلغ من عنجهيتها وصلفها إعتقادها بأنها الأقدر علي تمثيل قضايا التهميش. وإذا ما تذمر جمهور الهامش من هذه الفعلة الإستعلائية، أوكلت قضاياه إلي المستلبين من أبنائه، والمتعهرين. هل هذا هو قدر المهمّشين أن يهملوا أو أن يوكلوا؟

 

إنني أعتبر أن الهامش كله، ليس فقط الغربي، قد خسر الجولة الأولى، فقد إستعادت نخب المركز تحالفتها وفَعَّلت من قدرتها علي إعادة تعريف المفاهيم وترتيب الأولويات بحيث تقدم مبدأ المدنية علي أسس بناء المواطنة السودانية. علماً بأن الأولي مُحصِّلة الأخيرة، فتثبيت مبدأ المواطنة هو الأساس الذي يقوم عليه البناء المدني، الذي يُؤمّل أن تمثل كل لبنة فيه خطوة نحو تعزيز الفعل الديمقراطي.

 

كان يُغني عن هذا التسويف وتلكم المماطلة إلتزام قحت بدورها كمنسقية للثورة مهمّتها النظر عن السبل المثلي التي يمكن أن تعتمد لإقامة مؤتمر دستوري، وتحديد أولويات المرحلة والنظر في الآلية التي يمكن أن يتم بها إختيار الأجهزة التنفيذية والتشريعية. بكتابتها للوثيقة، تحديدها أولويات المرحلة وإختيارها للاسماء دون أدني إعتناء بالإجراء، تحمّلت قحت عبء القيام بمهام ما زالت من مسؤولية جهات عديدة مختلفة ومتنوعة. لا أظن بأن قحت كانت واعية بحجم الإشكالات التي يمكن أن يثيرها مثل هذا المسلك، لكنّها تصرفت وما زالت بصورة حدسية أقرب إلى القدسية وذرائع الحق التاريخي الذي يتصوره ويُعولَّ عليه جماعات “الليغ السياسي القديم.”

 

ختاماً، إن الإنتقال الإجرائي إلي الديمقراطية يجب أن تصحبه نقلة شعورية تنظر الي التنافس كظاهرة صحية، وإلي الإختلاف كرافداً أساسي للأفكار. إن الجهد الكبير الذي يبذله الوطنييون كافة في محاولتهم لإثناء قحت عن محاولتها للإستئثار بالشأن العام الذي يخص كل السودانيين أمر ضروري وحيوي لا يمكن لحكومة الكفاءات أن تحقق أي نجاح من دونه. فرئيس الحكومة في هذه الحالة هو بمثابة مهندس تمت الإستعانة به لهندسة موقع في ناصية ممتازة دون أن تسند إليه الأوراق الرسمية مثال الكروكي وشهادة البحث. وإذا شرع بحسن نية في الإعداد للتصميم فإنه سيكتشف من همس المدينة أن الأرض متنازع عليها وأن كبير أخوانه قد زور إمضاء بعض الأخوات وإستضعف بعضهم، رشي بعض الأخوان، هدد أخرين، إلي آخره من الحيل التي تتخذ لأكل مال اليتامي. إذا ما أغرته رسوم التصميم، المراقبة ، فإنه سيفأجا في إحدي زيارته للموقع بأناس يتابطون به شراً، هو أمام خيارين، أما أن يتعقل، يجبن ويرفض الأمر برمته، أو يواصل منتهزاً هذه السانحة ليبين للوراث المغُتَصِبين منهم والمُغَتَصَبين الفرص الإستثمارية الهائلة والخير الذي يمكن أن يطال الجميع إذا ما توافقوا وأعطوا كل ذي حقِ حقه. وحدها فقط الأيام ستوضح اي الرجلين حمدوك!