التجاني عبد القادر حامد
26يونيو، 2020
لقد كان هناك تساؤل يتردد طويلا بين علماء السياسة والاجتماع: ما الجماعة الأكثر تأثيرا في صنع التاريخ؟ أهي “شعب مختار” كما تصور غلاة اليهود مثلا، أم هي “طبقة مختارة” كما تصور الماركسيون؟ أم أن من يحرك التاريخ ليس جماعة وإنما هو شخصية كاريزمية خارقة تستطيع أن تحرك الجماعات، وتصنع الثورات؟ لقد كان الأستاذ المزروعي، رحمه الله، وهو باحث موسوعي متعمق، ممن أجالوا النظر في هذا وفى ذاك ثم أعرض عنهما جميعا لينتهي الى القول بأن المفهوم الأكثر ملاءمة لهذا العصر هو مفهوم “الفئة العمرية المختارة”، إذ قد يكون من المقدر للجيل الأصغر أن يؤدى في هذا العصر دورا مهما في المصير البشرى. ويسرد عددا من الوقائع التاريخية في العالم الثالث تؤشر في هذا الاتجاه: أثيوبيا عام 1974 حيث أطاح الطلاب بالأسرة الحاكمة العتيقة، وفى إيران ساهم الطلاب عام 1979 في الإطاحة بنظام الشاه، وفى السودان تظاهر الشباب عام 1985 فأطاحوا بحكومة النميري، وفى فلسطين قام اشباب بانتفاضة 1987 ضد الاحتلال الاسرائيلي، وفى الصين حقق الشباب انتفاضتهم في عام 1989.(ويمكن أن تضاف الى ذلك كل ثورات الربيع العربي التي لم يشهدها المزروعي). وفى كل هذه الأحوال يلاحظ المزروعي أن الشباب قد قاموا بدور طليعي جوهري، لا بصفتهم شعبا مختارا او عرقا مختارا أو طبقة مختارة، وإنما بوصفهم فئة عمرية مختارة.
ولكن يجدر بنا، يستدرك الأستاذ المزروعي، أن نتذكر أن الشباب في بعض هذه الحالات كانوا يقومون بأدوار طليعية لكنها “أداتية” وليست جوهرية. وهم حينما يقومون بهذه الأدوار “الأداتية” فهم يقومون بتنفيذ خطة ما، وضعها آخرون. لقد قام الطلاب الصينيون مثلا في فترة الستينات بدور رئيسي في تطبيق ثورة ماو تسي تونغ الثقافية، بيد أن الخطة لم تكن خطتهم؛ كانوا أداة تنفذ سياسات وضعها آخرون. أما في عام 1989 فقد تغير الحال، إذ انتفض الشباب الصيني في بكين وحاولوا القيام بدور طليعي جوهري لا أداتي، كما كان الحال في الثورة الثقافية التي صنعها الحزب الشيوعي. وعلى هذا المنوال يمكن القول أيضا أن الشباب الفلسطينيين الذين قاموا بالانتفاضة في الثمانينات لم يكونوا أدوات بل كانوا يؤدون دورا طليعيا جوهريا، يختلف اختلافا نوعيا عن دور منظمة التحرير الفلسطينية التي سحب منها زمام المبادرة. فالفرق بين ثورة شبابية وأخرى لا يكمن في أعداد الشباب المتظاهرين، وإنما يكمن فيما إذا كان شباب محشود أم حاشد، مقود أم قائد.
مفهوم الطليعة القائدة
السؤال إذن في حالة الثورة السودانية الراهنة، هل يؤدى الشباب الثائر دورا “أداتيا”؛ أي أنهم ينفذون خطة ما وضعها آخرون، أم أنهم يتحركون أصالة عن أنفسهم، ويمثلون بالتالي “طليعة قائدة” تحاول أن تقوم بدور جوهري بمعزل عن الجيل الأكبر؟ إن كانت الإجابة أنهم يتحركون أصالة عن أنفسهم، فإن الثورة ستستمر، وستجد لها أطرا جديدة، وستصنع لها قيادات بديلة، وستشق لها مسارات مستقلة عن المسارات الحزبية الراهنة. ولكن سيتوجب عليها عندئذ أن تتحول من الشارع والشعار الى البرنامج والبناء؛ أي أن تبلور رؤية وطنية كلية تتحرك في اطارها، وأن تكشف عن صورة المجتمع الجديد الذي تحلم به، وأن تصوغ الاستراتيجية البديلة التي ترجو أن يتحقق من خلالها المجتمع الجديد، وأن تقدم القيادة الثورية البديلة القادرة على صناعة التاريخ.
أما إن كانت الإجابة على هذا السؤال أن الشباب في الواقع ينفذون خططا وضعها آخرون، فان الهواء سيسحب من أشرعتهم، وإن زخم الثورة عندئذ سيتم تأطيره عاجلا أو آجلا في الأطر الحزبية المألوفة. وليس هذا ببعيد، فقد لاحظ كثير من الباحثين أن “الثورة” لا تعدو أن تكون عملية سريعة ومفاجئة يتم من خلالها “تدوير النخب”، حيث تزاح الاختناقات السياسية والحواجز القانونية لتنطلق النخب “المتربصة” لتشغل المواقع التي خلت باندحار النخب الحاكمة. ولا شك أنه ستتفجر، خلال هذه العملية الثورية، طاقات خلاقة يمكن أن تستغل في البناء والتعمير، كما أنها يمكن أن تبدد أو تنتهزها فئات من النخب الجديدة لمجرد المحافظة على مواقعها المكتسبة، وتبدأ من ثم في إقامة الحواجز والاختناقات الخاصة بها؛ وذلك ريثما تنهض نخب مضادة فتنتزع منها السلطة، لتتواصل حلقة النزاع السياسي الذي لا ينقطع.
إن الثورة، أي ثورة، تشبه في تقديري التيار المائي الذي ينحدر بقوة من مرتفعات الجبال، غير أن “الاندفاع القوى” وحده لا يتحول الى طاقة كهربائية نافعة للتعمير. يحتاج مثل هذا التيار المنحدر الى نوع من “التوربينات” التي تحول حركته القوية الى طاقة كهربائية تنطلق بها عمليات الإنتاج والبناء. والتوربينات المفقودة في حالة الثورة السودانية تتمثل في انعدام القوة “العملياتية” على الأرض، أي في انعدام القيادة الأمينة، ذات الرؤية الوطنية الجامعة، القادرة على التخطيط والتنفيذ، المتجردة عن الغرض، الناظرة الى المستقبل. فإن لم تستطع الثورة السودانية أن تنتج “توربينات” قيادية جديدة تبلور رؤيتها الثورية وتتحدث باسمها، فستقع في براثين “التوربينات” الحزبية القديمة التي تراكم عليها الطمي، وتجمعت حولها الأعشاب الضارة، فلم تعد تفلح الا في تدوير ذاتها. إن المسيرة القادمة في الثلاثين من يونيو الراهن قد تكشف ما إذا كان الشباب السوداني الثائر يمثل طليعة قائدة أم أداة في يد الآخرين. (نواصل).