أعلنت صحيفتان في السودان توقفهما عن الصدور وقامتا بتسريح الصحفيين في خطوة تشير إلى قرب انقراض الصحافة الورقية بعد ارتفاع تكاليف صناعتها في بلد انهكته الأزمات الاقتصادية.

وظلّت الصحف الورقية مؤخراً تتعرّض لخسائر، لأسباب سياسية وأمنية واقتصادية، كما أن الرقابة الأمنية القبلية القاسية عليها خلال العقدين الماضيين من حكومة الإنقاذ البائدة بزعامة المخلوع عمر البشير، خصمت منها الكثير، وجعلتها تتحرك في مساحات محدودة انعكس في تراجع الطباعة والتوزيع.

وخلال الخمس سنوات الماضية تعمّدت سلطات ولاية الخرطوم، إزالة مئات المكتبات وأكشاك التوزيع التي تمثل منافذ للتوزيع، بزعم تجميل شوارع العاصمة، بينما عادت وصدّقت أكشاكاً لتحويل الرصيد وبيع «التمباك»، ما يؤكد أن القرار كان سياسياً وأمنياً لتحجيم انتشار الصحف، بدليل تصريحات أحد النافذين في نظام حزب المؤتمر الوطني «المحلول» حين قال: «انتهينا من الأحزاب .. فضل لينا الجرايد»!!.

وأمس الأول «الأربعاء»، أنهت إدارة صحيفة المجهر السياسية اليومية، خدمة موظفيها، وعلّقت الصدور، كما أقدمت صحيفة “الأخبار” على ذات الخطوة بتسريح صحفييها بعد ان ظلت متوقفة عن الصدور لأكثر من خمسة شهور.

وناشر صحيفة «المجهر» هو الصحفي الهندي عزالدين، اما ناشر صحيفة «الأخبار» السياسية هو رجل الأعمال صديق ودعة، ويراس تحريرها مصطفى أبوالعزائم.

وتباينت رؤى رؤساء تحرير صحف وناشرين، تحدثوا لـ “دارفور 24” حول مستقبل الصحافة “الورقية” في السودان، ففي الوقت الذي رأى غالبيتهم أن زوالها مسألة وقت ليس إلا، وأن المُستقبل سيكون لـ”الإلكترونية” التي ستُميّز الصحفي «المحترف» من «الهاوي»، ذهب البعض إلى أن الجرائد الورقية لن تزول لإرتباطات منها أنها جزء غير مباشر من عمل الدولة.

أسباب اقتصادية

وعدّ الهندي، وهو مالك “المجهر”، تعليق الصدور وتسريح العاملين، قراراً واقعياً مبني على حسابات اقتصادية، مؤكداً أنه لم يتعرّض لأي ضغوط سياسية من الحكومة الإنتقالية للإغلاق.

وبيّن أن سعر شراء الدولار اليوم في حدود 200 جنيهاً، ما يعني أن طن الورق يساوي 190 ألف جنيه، مقارنةً بـ 130 قبل شهرين، ونحو 100 ألف جنيه قبل وباء كورونا.

وقال إن قيمة طن الورق قبل عام كانت 70 ألف جنيه، والآن حوالي 180، بزيادة 100 ألف خلال عام، كما أن قيمة التشغيل بالمطابع «أحبار وعمالة وكهرباء» تضاعفت 6 مرات، قياساً بشهر أبريل الماضي «تاريخ الحظر الشامل بسبب جائحة كوفيد-19».

ويرى البعض أن الهندي، وحتى تاريخ اليوم، يُناصر ويُدافع عن حكومة الإنقاذ البائدة، ولا يعترف بوجود معارضة، حتى أن البعض أرجع سبب توقف اصدارته إلى إنقطاع الدعم الذي كان يتلقاها من نظام حزب المؤتمر الوطني “المحلول”.

ورأى آخرون، أن الهندي، أعلنها صراحة من خلال كتاباته أنه ضد الحكومة الانتقالية برئاسة رئيس مجلس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، مستشهدين بعموده الآخير الذي قال فيه: « الجميع يعرف أنني أول مَنْ وقف ضد حكام اليوم من قوى الحرية والتغيير، يوم أن هرب الجميع من ساحة المواجهة، (الكيزان) وأتباعهم ممن تنعموا.. واستوزروا.. وأثروا من حكومات النظام السابق، و(العسكريين) الذين داهنوا ونافقوا قوى الحرية وما زالوا ينافقون».

وقطع الهندي، في تصريح خصّ به «دارفور 24»، بأن أي صحيفة صدرت بعد ظهور فيروس كورونا تخسر بين 20 إلى 50 ألف يومياً، كما أن جميع الصحف الصادرة حالياً بما فيها الأعلى توزيعاً خسرانة، وهنالك صُحف عليها ديون تُقدّر بمليارات الجنيهات لتجار الورق والمطابع.

وربط الصدور مجدداً بتحسُّن الأوضاع الاقتصادية، أو توفّر ورق من مصادر أرخص، إلا انه أكد أن الإهتمام بالموقع لإلكتروني للصحيفة سيزداد، مع ستمرار كتابة عموده «شهادتي لله» بصورة يومية.

رسائل الناشرين

وأعلن ناشر جريدة «المجهر» الإلكترونية، عن بدء سداد حقوق العاملين في الجريدة فوراً، قاطعاً بأن رُبع الموظفين إستلموا حقوقهم، ومضى قائلاً: «نحنُ لا نتغطى، هنالك صُحف تقف صامدة بدون إعلان، وناشرين يوقفون الصحف بدون إعلان، وبالتالي تضيع حقوق العاملين، ولكن كل صحفي أعلنا إيقافه وسددنا لهم حقوق 6 أشهر حسب قانون العمل وكأنهم توقفوا تعسفياً، إضافة للتأمين الإجتماعي الذي سيتسلموه»، مؤكداً أن هنالك حالة رضا خالص بين مجلس الإدارة، والصحفيين، مدللاً بتعليقاتهم على مواقع التواصل الإجتماعي.

بدوره رأي رئيس تحرير صحيفة «الأخبار» السياسية السودانية مصطفى أبوالعزائم، أن الصحافة الورقية بالبلاد إلى زوال، بسبب الظروف الإقتصادية، مؤكداً أن غياب الإعلان الذي تعتمد عليه الصحف أفّقر الصحف لاعتمادها عليه، خاصةً وأن تكلفة النسخة تُقارب 40 جنيهاً، ولذلك الناشر الذكي هو الذي يتجه الآن بقوة لإيقاف صحيفته حتى لا يخسر.

ومستقبل الصحافة الورقية العالمية، بنظرة أبوالعزائم، قد يتأثر بعض الشيء، لكن ليس بالشكل الكبير كما السودان، قائلاً: “الدول التي اقتصادها مُستقر مثل السعودية استبعد أن تتأثر صحافتها، لأن إعلانتها مستمرة وقيمتها عالية في الإمارات وبريطانيا وأمريكا، وهنالك صحف توزع مجاناً”.

المستقبل محسوم

وراهن أبوالعزائم، في حديثّ خصّ به «دارفور 24»، بأن المستقبل في السودان للصحافة الإلكترونية، في ظل إنتشار الهواتف الذكية، وعدم الإعتماد على نشر الأخبار بالمعايير المعروفة، فكان التوجه نحو الإعلام الإلكتروني الذي ينشر الغث والرخيص والقيّم، خلافاً للصحافة الورقية المُلزمة بالمصداقية، بدليل أنه يتم الرجوع إلى “الورقية” للتأكد من صحّة أخبار نُشرت في “الإلكترونية”.

واستبعد مصطفى، والذي شغل رئاسة عدّة صحف سياسية يومية، إبان عهد حكومة المعزول، أن يكون تعليق صدور «المجهر» و«الأخبار» مؤخراً، لإنقطاع دعم مالي كانت تتلقاه من الحكومة البائدة، موضحاً أن التردي الاقتصادي رفع التضخم فزاد التكلفة فانحسر التوزيع وزادت الخسائر، ولا علاقة له بالشأن السياسي.

صُحف على الطريق

من جانبه، قال رئيس تحرير صحيفة “المواكب” السياسية اليومية، يوسف سراج الدين، إن الإغلاق يكشف أن الصحافة الورقية تمر بأيام عصيبة، في ظل أزمة اقتصادية طاحنة ظهرت في إرتفاع تكاليف صناعة الصحافة، فوضعت أعباء كبيرة على الناشرين في مقابلة الإلتزامات الأخرى، أضف إلى ذلك ظهور جائحة كورونا.

وحذّر بأنه في حال لم يتم إعفاء مدخلات الطباعة، مع العدالة في توزيع الإعلان الحكومي، فإن صحف كثيرة ستخرج من السوق، حتى ولو بلغت نسبة توزيعها «100%»، مؤكداً أن الإعلان معيار للبقاء.

وتوقع رئيس تحرير “المواكب” – حديثة الصدور -، أن تُغلق صحف أقلامها في حال استمر الوضع دون تدخلات مباشرة في مسالة تكاليف الطباعة، قائلاً: ” توقف الكثير من الجرائد مسألة وقت.. مُعظم الصحف الورقية بالبلاد ستتحول إلى إلكترونية، إلا أن ذلك لا يعني نهاية الورقية لإرتباطات كثيرة جديداً منها أن الصحافة جزء غير مباشر من عمل الدولة”.

وأضاف:” لن تتطور أي دولة بلا صُحف، وعموماً لا يزال هناك (عُمر) لـ«الورقية» لأن المزاج العام يتعامل معها بِحُكم العادة وسهولة التعامل معها، وعموماً الورقية بمعناها الفلسفي لا تموت باعتبار أن ذات الصحفيين (المحترفين) الحاليين سيتحولون إلى محررين إلكترونيين، ولُهم قُدرة البقاء في السوق الإلكتروني أكثر من (الهواة)، الذين جرّبوا الصحافة بشكل هواية عبر الوسائط، والآن تضبطهم قوانين معلوماتية تجعل استمرارهم في العمل ضعيفة جداً.

ونبّه سراج الدين في تصريح لـ”داوفور٢٤”، إلى أن المواطن مُحاصر بالتزامات أخرى مُقدّمة على القراءة، وهو ما انعكس في تراجع الإقبال على شراء صحيفة، وأقر بأن الجرائد «تُكابد» الآن بحسابات، منها تقليل الطاقم التحريري، كما أن الراتب للصحفي أصبح ليس مُجزياً بحيث يشعر بالأمان، فكان اللجوء لمتعاونين للتراسل لأن قيمتهم أقلّ.

وأشار إلى كل المطابع في السودان متوقفة باستثناء إثنين فقط “الجيش وبكة”، وهو ما انعكس في ارتفاع سعر تكاليف الطباعة.

ونوه إلى أن مطبعة “فاب” تعتبر جيدة لكن تمّ إيقافها بسبب ملابسات أيلولتها لوزارة المالية أم الإعلام؟، داعياً الجهات المختصة إلى تكوين إدارة لتبدأ العمل وتخفف العبء على المطبعتين.

وقال يوسف سراج الدين، إنه وفي ظل هذه الظروف المعقدة، على الدولة أن تتدخل لعلاج مشاكل تكاليف مدخلات الطباعة، وذلك بعد حِقبة مُشوّه كان يتدخل فيها النظام المُباد مباشرةً لضخ الدماء والروح في الصُحف التي يُريدها، لكن الآن ندخل مرحلة انفتاح ديمقراطي.

وأضاف: “سابقاً كانت ثقافة المُعلن مختلفة، كانت هناك مؤسسات يتم توجيهها لنشر إعلاناتها في جرائد بِعينها، فلم نصل مرحلة التنافس للبحث عن الأكثر إنتشاراً وتذهب إليه، ونأمل أن تكون بداية حكومة ثورة ديسمبر جيدة بدعم مدخلات الإنتاج وجعل سوقها حر والإعلان متروك للمنافسة الشريفة وهي فرصة لبقاء 4 أو 5 صحف على الأقل”.

وخالف سراج الدين، أبو العزائم، بأن الصحافة الورقية تأثرت عالمياً، مستشهداً بتوقف كُبريات الصحف مثل «الحياة»، مؤكداً وجود كساد في سوق الصحافة عالمياً، بسبب أن هنالك إتجاه للصحافة الإلكترونية.