الخرطوم- شمائل النور

أكمل انقلاب قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر 2021 عاماً إلا قليلا؛ لكنه لم يتمكن من الحكم فعلياً، إذ لا يزال غير قادر على تشكيل حكومة، مع الدعوات المستمرة للقوى السياسية للتوافق، وهي دعوات لا تخلو من تلويح بالعسكرة.

وتحفظ الذاكرة السياسية السودانية فترات حكم طويلة للعسكريين مقابل فترات قصيرة جداً للحكم المدني، وهو ما أُصطلح عليه في أدبيات السياسة ب “الدائرة الشريرة” في تفسير لتقلبات الحال من ثورة أو انتفاضة ثم ديمقراطية ثم انقلاب عسكري ثم انتفاضة أخرى.
ليأتي السؤال، لماذا لا تصمد الأحزاب السياسية بعد الثورات وسرعان ما ينقض العسكر على الحكم؟

سؤال “السلطة” يعلو على سؤال “التأسيس”

أستاذ السياسة العامة والإدارة بجامعة لونغ ايلاند الأمريكية؛ بكري الجاك يرى أن الأحزاب السياسية لديها مشاكل تتعلق بالأنظمة الشمولية التي حولت الأحزاب لمجرد ظاهرة صوتية للتعبير لينتهي بها الأمر داخل إطارها التنظيمي إلى ما يشبه علاقة ”الشيخ بالمريد“، فلم تجد الأحزاب فرصة للبناء لهذا السبب.

بكري الجاك

ويضيف بكري في مقابلة مع “دارفور24” أن القضية لا تتعلق فقط بالأنظمة الشمولية الحاكمة؛ هناك إشكال بنيوي ثقافي واجتماعي، وبالنسبة لبكري فإن العقل القبلي الطائفي موجود في كل مؤسسات وتنظيمات البلاد.

ويستدرك بقوله: إن المشكلة اجتماعية، لكنها تتمظهر في الأحزاب وغيرها من الكيانات، مشيراً إلى أن المجتمع غير قادر على إنتاج بنية حداثية.

خلاصة القول بالنسبة لبكري الجاك أن الأحزاب بوضعها الحالي هي واحدة من مهددات الانتقال لانها مهمومة بسؤال السلطة أكثر من سؤال التأسيس.

ويتفق مع بكري الجاك، رئيس تحرير صحيفة إيلاف؛ خالد التيجاني في أن التركيبة البنيوية للأحزاب معوق رئيسي للديمقراطية، لأن الديمقراطية لا تتحقق إلا بوجود أحزاب ديمقراطية.

ويقول خالد التيجاني في مقابلة مع “دارفور24” إن الوضع الحالي للأحزاب هو السبب في فشل كل مراحل الانتقال منذ الاستقلال، ويقسم التيجاني الأحزاب إلى نوعين: أحزاب تقليدية مثل حزبي ”الأمة والاتحادي“ ورغم أنها تتبنى الديمقراطية لكن تركيبتها البنيوية تعوق تحقيق هذا الهدف مما يجعل السقف منخفض، وأحزاب حديثة؛ الغالب فيها الطابع الايدولوجي وتعاني نفس الخلل لأن الممارسة في النهاية مماثلة.

ويوضح رئيس تحرير صحيفة إيلاف أن ثورة ديسمبر مختلفة تماماً عن ”أكتوبر 1964“ و ”أبريل 1985“ كونها حفرت عميقاً في المجتمع كما أن مسار حركتها من الأطراف إلى المركز، وأن قوامها الشباب، كل ذلك كان أكبر من الطاقة الاستيعابية للمنظومات الحزبية.

ولاقت الأحزاب السياسية خلال الفترة التي تلت ثورة ديسمبر خطاب كراهية واسع النطاق من داخل معسكر الثورة، بسبب ما يعتبره المناوئون لها ”نفاد صلاحية“ لهذه الأحزاب.

وخصمت فترة العامين من الحكم “المدني- العسكري” من الرصيد الشعبي للأحزاب السياسية لجهة أنها عجزت عن إدارة الدولة.

ويشير التيجاني إلى حزب المؤتمر السوداني بقوله إنه أكثر الأحزاب محاولة للخروج من هذه الدائرة وهو حزب شبابي وحديث، لكنه أصبح أسير للنادي السياسي القديم وفقاً التيجاني.

وأظهر انقلاب قائد الجيش في أكتوبر العام الماضي تباينات واضحة داخل تحالف “الحرية والتغيير” لتنتقل هذه التباينات داخل عدد من الأحزاب، والتي أصبح بعضها يُظهِر تيارين يعبر كل منهما عن موقف مختلف، وسط سيولة بيانات النفي والتوضيح.

وهو الأمر الذي أبرز سؤال الممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب بما يمكّنها من قيادة البلاد خلال فترة الانتقال.

الاستحقاق التنظيمي في الانتظار

وعانت الأحزاب لفترات طويلة بسبب سياسات الأنظمة الشمولية، لكن رغم ذلك قاومت وظلت فاعلة وفقاً لرئيس حزب المؤتمر السوداني؛ عمر الدقير الذي تحدث “لدارفور24”

ويقر الدقير بأن المتوقع من الأحزاب بعد ثورة ديسمبر هو الخروج من حالة الهشاشة إذ لا يمكن لأي مجتمع تحقيق نصر حاسم للاستبداد إذا اكتفى فقط بالتعليل السياسي للاستبداد.

ويتابع “نحن في المؤتمر السوداني حريصون على الالتزام بالاستحقاقات التنظيمية الديمقراطية، فمنذ العام 1986 حتى اليوم شغل قيادة الأحزاب 5 رؤساء“ وسوف يعقد حزب المؤتمر السوداني مؤتمره السادس في يناير القادم بحسب الدقير، لكن التمويل يمثل مشكلة تواجه هذا الاستحقاق التنظيمي.

ويقول الدقير إن الأحزاب الآن منشغلة بمقاومة الانقلاب لكن طالما أن الدور الأكبر يقع على الأحزاب في تأسيس منظمات ديمقراطية حقيقية، فواجب عليها أن تحارب عبر فوهتين؛ مقاومة الانقلاب ومقاومة هشاشتها بغية إصلاحها التنظيمي.

عضوة المكتب السياسي لحزب الأمة القومي؛ زينب المهدي ترى أن الانتقال نفسه تحدي كبير جداً وعانت منه دول عديدة، مشيرة في مقابلة مع “دارفور24” إلى التدمير الذي لحق ببنية الأحزاب، وهو تدمير بدأ مبكرا منذ سنوات نظام مايو لتكمله سنوات الإنقاذ وفقاً لزينب.

ومنذ سقوط البشير في أبريل 2019م لم يُرصد لأي حزب سياسي أن قام باستحقاق تنظيمي يواكب المتغيرات الكبيرة التي أحدثتها ثورة ديسمبر.

تقول المهدي “نحن في حزب الأمة لم نتمكن من عقد المؤتمر العام الثامن بسبب الظروف العامة التي عانت منها كل الأحزاب والتي تتمثل في الإفقار والاختراق”

ومن وجهة نظر زينب أن جزء كبير مما تعانيه الأحزاب مصنوع وليس حقيقي وتواصل القول “نحن في حزب الأمة أصدرنا قرار تشكيل اللجنة العليا للمؤتمر الثامن وهو استحقاق تأخر كثيراً”.

وينظر الحزب للمؤتمر الثامن كتأسيس جديد بسبب التغيرات الكبيرة التي حدثت، يكون البناء فيه من القاعدة إلى القمة لضخ دماء جديدة، لكن التمويل يمثل أحد تحديات قيام المؤتمر بحسب زينب.

ما بين حالة الهشاشة الحزبية وتعثر الاستحقاق الدستوري التنظيمي للأحزاب والتحديات الماثلة، اقتصادياً، أمنياً وسياسياً، تظل القوى السياسية واحدة من مهددات الانتقال إلى جانب مهددات عديدة، لكن؛ يبقى الفيصل في عملية الانتقال هو توفر الإرادة.