تقرير – دارفور24

نحن مجبرون على البقاء في مناطق سيطرة الدعم السريع، ولا نستطيع إرسال أطفالنا إلى مناطق الجيش، لأن ذلك قد يعرضهم للاعتقال أو حتى القتل بسبب الانتماء الجغرافي.

هكذا بدأ سليمان محمد سليمان، أحد أولياء الأمور بمدينة الضعين بولاية شرق دارفور الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع حديثه لـ “دارفور24″، وهو يصف واقع التعليم في الولاية بأنه “مجازفة خطيرة” في ظل استمرار القتال في السودان.

ويشير إلى إن العشرات من طلاب شرق دارفور اعتُقلوا في شمال السودان أثناء محاولتهم مواصلة تعليمهم الجامعي، بينما حُرم آلاف التلاميذ من الجلوس للامتحانات النهائية لأنهم يقيمون في مناطق خاضعة لسيطرة الدعم السريع، ما تسبب في تراجع الروح المعنوية لدى الطلاب وعزوف أعداد متزايدة منهم عن الدراسة.

انقسام إداري ومصير غامض

بين معارك وانقسام في إدارة الدولة، تحل السنة الدراسية الجديدة بينما آلاف التلاميذ بين نزوح وقتلى، وعشرات المدارس تحولت إلى ركام أو مراكز إيواء مكتظة بالنازحين، فيما فقدت العملية التعليمية مقوماتها الأساسية بعد مقتل 40 معلمًا خلال الحرب.

تحاول بعض الولايات – كشرق وجنوب ووسط دارفور – إعادة فتح المدارس وسط انعدام الكتب، غياب المعلمين، ومخاوف الأسر من إرسال أطفالهم إلى الفصول التي تقع في مناطق سيطرة أحد طرفي الصراع.

امتحانات الشهادتين الإبتدائية والمتوسطة في رهيد البردي بجنوب دارفور ــ 3 نوفمبر 2024

 

النظام التعليمي في السودان لم يعد موحدًا، إذ تدار العملية التعليمية الآن من سلطتين متوازيتين؛ وزارة التربية والتعليم في بورتسودان وأخرى أنشأتها قوات الدعم السريع في مناطق سيطرتها بدارفور.

وهذا الانقسام أنتج واقعًا معقدًا مثقلًا بسلسلة من الأزمات، يهدد الاعتراف بالشهادات الدراسية ويعمّق أزمة التعليم في الإقليم.

ويقول سليمان موجهًا حديثه لوزارة التربية الاتحادية: “أطفالنا لا ذنب لهم، يجب ألا يُحاسبوا سياسياً على مواقعهم الجغرافية، فالحرب جرفت كل شيء، لكن لا ينبغي أن تسرق منهم حقهم في التعلم”.

أكبر أزمة تعليمية في العالم

منظمة اليونيسف، في تقرير حديث، تضع الكارثة في إطارها الأوسع، إذ حُرم نحو 14 مليون طفل من أصل 17 مليونًا في السودان من التعليم بسبب الحرب المستمرة منذ أبريل 2023، معظمهم في دارفور وكردفان، وهي من أكبر أزمات التعليم في العالم.

وتشير المنظمة إلى أن تمويل خطتها الإنسانية لم يتجاوز 38% رغم الحاجة الملحة للمساعدات التعليمية.

محاولات خجولة

في جنوب دارفور، تبدو محاولات العودة إلى الفصول خجولة. عضو لجنة المعلمين فضل حجب اسمه لدواعٍ أمنية، أكد لـ”دارفور24″ أن الإقبال على المدارس لا يتجاوز 30%، وأن 80% من الطلاب خارج العملية التعليمية بسبب النزوح أو الالتحاق بجبهات القتال، بينما تتركز الدراسة في المدارس الخاصة وسط نيالا.

وقال إن المرتبات التي تصرف من الحكومة في بورتسودان متأخرة ولا تتجاوز 60%، ولا تكفي احتياجات المعلمين وأسرهم، فضلاً عن عدم استمراريتها شهريًا.

ومع تحويل نحو 20 مدرسة في نيالا إلى مراكز لإيواء النازحين، ازدادت الضغوط على المؤسسات التعليمية، بينما يمثل نقص الكتب المدرسية وارتفاع أسعارها عبئًا آخر على الأسر، إذ تباع كتب المرحلة المتوسطة في مدينة الدبة بالولاية الشمالية بحوالي 70 ألف جنيه، بينما تصل الأسعار في نيالا غرب البلاد إلى 130- 140 ألف جنيه، وقد ترتفع أكثر في المناطق البعيدة.

وقال المسؤول بوزارة التربية والتعليم بالولاية، عمر عبدالله، (أسم مستعار)، لـ”دارفور24″ إن عدد التلاميذ الذين جلسوا لامتحانات شهادة الأساس للعام 2022 بلغ 51,693 تلميذًا وتلميذة موزعين على 248 مركزًا بمحليات الولاية المختلفة، وكان هذا آخر عام لنظام مرحلة الأساس. أما العامان التاليان 2023 و2024، فلم يتم تحديد أعداد الطلاب بسبب اندلاع الحرب، وقد فقدت الولاية 40 معلمًا خلال المعارك.

الاستقرار النسبي الذي تحقق العام الماضي، كما تشير المتطوعة عواطف حمدان بجنوب نيالا، في افادتها لـ “دارفور24” ارتبط بدعم المنظمات الإنسانية مثل أطباء بلا حدود والمجلس النرويجي، التي وفرت وجبات الإفطار وحوافز للمعلمين، مما شجع الأسر على إرسال أطفالها إلى المدارس.

اتهام بالتخابر وأجور متدنية

في شرق دارفور، يواجه المعلمون تحديات أشد وطأة. يقول أحد المعلمين في مدينة الضعين لـ”دارفور24″ إن التعليم في الولاية يعيش وضعاً بالغ التعقيد، إذ تواجه المدارس تحديات متعددة تبدأ من عدم اعتماد شهادات النقل من وزارة التربية الاتحادية، وتنتهي عند انعدام الرواتب وتخريب البنية التحتية.

وأضاف أن رفض الكوادر التعليمية العمل تحت إدارة الدعم السريع يمثل تحديًا كبيرًا، خاصة بعد اعتقالات داخل إدارات التعليم في محليات أبومطارق والضعين، ما اضطر العديد من المعلمين إلى الفرار نحو مناطق سيطرة الجيش.

وأشار إلى أن قوات الدعم السريع تتبع سياسة مصادرة رواتب المعلمين الذين يتقاضونها من وزارة التربية الاتحادية، واتهامهم بالتخابر لصالح الجيش، ما يضعهم في مواجهة تهديدات مباشرة.

وأكد أن الأجور المتاحة تتراوح بين 50 و130 ألف جنيه، وهو مبلغ فقد قدرته الشرائية بسبب تدهور قيمة الجنيه، بينما هاجرت غالبية الكوادر التعليمية إلى دول الجوار أو ولايات أكثر استقرارًا.

وأوضح أن استمرار العملية التعليمية مرهون بوقف الحرب، فحتى فتح المدارس يبقى مؤقتًا.

 

جهود محدودة

رغم الانهيار، تبذل مجتمعات دارفور جهودًا ذاتية لإعادة الحياة التعليمية. ففي بلي سريف بمحلية شرق جبل مرة، أعاد الأهالي فتح المدرسة بعد توقف طويل، مستضيفين أكثر من 200 أسرة نازحة من الفاشر ونيالا.

وقال مدير المدرسة محمد أبكر عبد الرحمن في مقابلة لـ “دارفور24” إن أكثر من 400 تلميذ ما زالوا خارج التعليم نتيجة النزوح الكبير، داعيًا المنظمات إلى دعم المبادرات المحلية باعتبار التعليم أساس النهوض.

امتحانات الشهادة الابتدائية في غرب دارفور.. 21 يونيو 2025

الوضع لا يختلف كثيرًا في زالنجي بوسط دارفور، فقد توقفت العملية التعليمية منذ أبريل 2023 بسبب الحرب، التي أدت إلى نزوح سكان مخيم الحصاحيصا والأحياء المجاورة لقيادة الجيش غرب المدينة إلى المدارس الحكومية.

وأوضح الموجه التربوي بوزارة التربية والتعليم بوسط دارفور محمد إبراهيم صالح، أن الآلاف من التلاميذ فقدوا مقاعدهم الدراسية نتيجة إغلاق المؤسسات التعليمية.

وأشار في مقابلة مع “دارفور24” إلى أن بعض المدارس الحكومية في أحياء الوحدة وطيبة أعاد فتحها مواطنون كمدارس خاصة، وفرضوا رسومًا دراسية لتغطية نفقات المعلمين المتطوعين، بينما فتحت ثماني مدارس خاصة أبوابها بدعم بعض المنظمات الدولية التي ساعدت في دفع مبالغ رمزية للمتطوعين.

في بلدة كرنوي الواقعة على بعد نحو 200 كيلومتر شمال غرب الفاشر، تمكن الأهالي من ترميم مدرستين للبنين والبنات وبناء سور خارجي لمدرسة البنات.

القيادي الأهلي مجدي ماينيس في حديثه مع “دارفور24” أشار إلى أن نحو 700 تلميذ يدرسون حاليًا.

وشدد على ضرورة تخصيص 10% من عائدات التحصيل الحكومي لدعم التعليم في جميع الوحدات الإدارية.

 

توزيع المدارس والطلاب

يضم إقليم دارفور وفق الاحصاءات التي حصلت عليها “دارفور24” نحو 4000 مدرسة موزعة بين المدن والأرياف، بما في ذلك مدارس الرحل، لكن التوزيع يكشف تفاوتًا كبيرًا بين الولايات.

في شمال دارفور توجد 784 مدرسة يستفيد منها 35 ألف طالب ثانوي و55 ألف ابتدائي و60 ألف مرحلة أساس. غرب دارفور تضم 1018 مدرسة، بعدد طلاب ثانوي 10 آلاف وابتدائي 17 ألفًا وأساس 18 ألفًا. في وسط دارفور، 477 مدرسة تشمل 12 ألف ثانوي و15 ألف ابتدائي و20 ألف أساس.

أما جنوب دارفور، فهي الأكبر بعدد المدارس 2716، ويستفيد منها 37 ألف ثانوي و43 ألف ابتدائي و16 ألف أساس. شرق دارفور الأقل عددًا بـ88 مدرسة لتعليم 9,466 ثانويًا و16 ألف ابتدائي و16 ألف مرحلة أساس.

تعكس هذه الأرقام فجوة حقيقية في الوصول إلى التعليم، خصوصًا أن أعداد طلاب المرحلة الثانوية تشمل فقط من جلسوا لامتحانات الشهادة للعام 2023- 2024، دون احتساب طلاب الصفين الأول والثاني.

ويبقى التعليم في دارفور مرهونًا بوقف الحرب واستقرار الأمن، فالمدارس لا تزال واجهة للصراع، لكن المجتمع المحلي مستمر في مقاومة غياب التعليم بكل الإمكانيات المتاحة.