نيالا- دارفور 24

كان يوم الخميس الماضي يوماً مأساوياً على السيدة “ام كلثوم” رغم انها تنتظر وتترقب بعنبر الولادة في مستشفى نيالا التعليمي ميلاد حفيدها الذي تحمله ابنتها ذات الثلاثة وعشرين عاماً، كلثوم أبكر قطعت 45 كيلو متر من منطقة دونكي دريسة الى عاصمة جنوب دارفور “نيالا” وهي متشوقة لرؤية حفيدها بعد ان تعثرت ولادته بالقرية، لكنها لم تدر ان طفليها اللذين ودعتهما عصر ذاك اليوم لن تراهما مرة أخرى، فقد إلتهم جسديهما حريق لا يعرف براءة الطفولة.

 

الحريق الذي انطلق من منزل كلثوم عندما جلس طفليها وأبناء أختها الثلاثة بالقرب من موقد النار لطهي وجبة الفطور “لوبا” أحال اجساد الأطفال الخمسة الى بقايا متفحمة، وترك وراءه قصة مأساوية وحزناً عميقاً ومئات الأسر بلا مأوى ولا عذاء ولا كساء ولا مدخرات من قوتهم الذي حصدوه من زراعتهم قبل ثلاثة أشهر والمنطقة مشهورة بانتاجيتها العالية.

 

تقول كلثوم انها سافرت الى نيالا برفقة ابنتها التي تعثرت ولادتها في القرية وتركت اطفالها برفقة شقيقتهم ذات ال13 عام، واضافت: ان الطفلة الكبرى شرعت في إعداد وجبة الفطور بطهي “اللوبا” لكن شبت ألسنة النار في المطبخ “التُكُل” المشيد بالمواد المحلية “القش” فأحتمى الاطفال تحت السرير، وانهار عليهم المنزل والتهمتهم النيران.

 

تماسكت كلثوم رغم الحزن العميق الذي بدى عليها، إلا أن زوجها “والد الأطفال” لم يتمكن من مقاومة آثار ما حل بأطفاله، فانهارت قواه وانفجرت عيناه بالدمع وهو يبكي بحرقة، ويقول أدم الطاهر 52 سنة “كنت مع زوجتي برفقة ابنتنا الكبرى بمستشفى الولادة بنيالا، عندما اتصل بنا عمدة المنطقة وطلب منا- بصوت متهدج- الصبر والاحتساب، وفغلبه الحديث معنا، وأغلق هاتفه دون ان يتمكن من توضيح ما حدث” وتابع: بعد ذلك أجرينا اتصالات وعلمنا بأمر الحريق، وان ابنائنا قضوا نحبهم فيه، وقال الطاهر بنبرة حزينة- وهو يبعثر انقاض القطية التي أحترقت فيها أجساد الأطفال- هنا فقدت طفلين أعمارهما 3 و5 سنوات.

وتروي زينب إسماعيل جبريل 39 سنة وهي أم لتسعة أطفال مشهد انتقال النيران بين المنازل، وقالت: كنت في منزلي عندما تفاجأت بالنيران قادمة إلينا بسرعة من الناحية الشرقية، فأخرجت أطفالي دون ان أتمكن من انقاذ أي شئ من المنزل، وأضافت: خسرت 3 منازل “قطية” و20 جوال دخن، و10 جوال فول سوداني، وكميات من علف الفول، ولا نملك حتي إناء لشرب الماء.

 

وبسبب تشييد المنازل بالمواد المحلية “القش” وسرعة الرياح في هذه الايام انتقلت ألسنة النيران الى بقية المنازل وانتشرت من منزل الى منزل حتى قضت على 2037 منزل، ونحو 150 محلا تجارياً “دكان” اضافة الى نفوق مئات الماشية، وعشرات الاطنان من المحاصيل الزراعية وقشارات الفول ومعاصر الزيوت، وثلاث مدارس- وفقاً لإحصائيات الحكومة المحلية- وأحال الحريق القرية الى رماد وأطلال، وبات المئات من السكان بلا مأوى تحت أشعة الشمس ينامون في العراء ولم يتبق للأطفال والنساء سوى الإحتماء بالأشجار التي فقدت- هي الأخرى- ظلالها بسبب الحريق الذي إلتهم فروعها وأوراقها.

 

 

وتكررت الحرائق في القرى باقليم دارفور خلال شهري فبراير ومارس حيث قضت الحرائق على آلاف المنازل بالاقليم، وقتلت نحو 10 أطفال من بولايتي جنوب وشمال دارفور، الأمر الذي يتطلب تغيير أنماط السكن من البناء بالحطب والقش الى التشييد بالمواد الثابتة “الطوب”

وطرحت جامعة نيالا العام الماضي- عقب الحريق الذي قضى على أكثر من ألفي منزل في مدينة قريضة 84 كيلو متر جنوبي مدينة نيالا عاصمة الولاية- مبادرة “زيرو قش” لتمليك المواطنين مهارات صناعة الطوب الحراري ليكون بديلاً للبناء بالحطب والقش في محاولة لتغيير نمط السكن.

 

وتجددت الدعوة لتغيير انماط السكن من خلال مبادرة والي الولاية حامد هنون الذي اعلن دعمه للمنطقة بعدد 3 ماكينات لصناعة الطوب الحراري، ودعوته الى الجامعة لايصال فكرة مشروع “زيرو قش” الى سكان المنطقة.

 

في مقابل ذلك قالت السلطات المحلية أنها سوف تخطط المنطقة وتسلم السكان منازل مخططة تفصل بينها مساحات وطرق داخلية لتقلل من تكرار نشوب الحرائق واضرارها الكبيرة في المستقبل.

 

ووجدت كارثة الحريق التي حلت بمنطقة دونكي دريسة تفاعلاً كبيراً من سكان جنوب دارفور والمؤسسات الحكومية بالولاية فقد تدافعت القوافل والمساعدات للمنطقة لاغاثة السكان الذين فقدوا كل شئ، حيث شهدت المنطقة وصول المساعدات من المناطق المجاورة وبعض المحليات وحكومة الولاية وقوات الدعم السريع اضافة الى قوافل سيرتها بعض القبائل.

 

ويقول المواطن محمد عثمان 39 سنة ان هذه القوافل وفرت لهم جزء من لقمة العيش لايام، وخففت عليهم هول الكارثة، لكن يظل الحزن العميق الذي خلفه الحريق محيط الأسر خاصة التي فقدت أطفالها.