زالنجي ــ دارفور 24

لا يزال الخوف يتحكم في نفوس الفارين من الحرب جراء تعرضهم لانتهاكات مُروعة ارتكبها بحقهم الجيش وقوات الدعم السريع، حيث رفض الكثير منهم التحدث عنها خوفًا من ملاحقتهم، فيما تحدث قلة بعد أن أعطاهم “دارفور 24” ضمانات تتمثل في عدم ذكر اسماءهم وعدم نشر صورهم الشخصية.

يقطن المعلم “ي. م. إ”، في حي الإستاذ في منزل يقع شرق قيادة الجيش في مدينة زالنجي عاصمة ولاية وسط دارفور، حيث كانت حياته تمضي بصورة جيدة لا سيما وأنه يعمل في إحدى المنظمات الوطنية.

تفاجأ هذا المعلم، في صباح السبت في 25 رمضان السابق، بالقذائف والذخائر تنهمر عليه من جميع الاتجاهات، ليُسيطر عليه رعب لا مثيل له، فلم يجدى سوى الجلوس مستسلمًا لقدره وفي يده مسبحة يتمتم بالإدعية وآيات القران مستجديًا لطف الله الذي حمده على عدم تواجد أسرته معه في هذه اللحظة.

غادرت أسرته المكونة من زوجة وثلاث فتيان وصبيان، إلى مسقط رأسه حيث تقيم أسرته الممتدة هناك بغرض قضاء عطلة العيد، على أن يلحقهم بهم بعد أيام يُرتب فيها أوضاعه ولوزام العطلة.

تقييم الغنائم على حياة الناس

وقال الأستاذ “ي. م. أ”، لـ “دارفور 24″، إنه “وفي حال الخوف الذي يتملكه، أغارتني قوة مكونة من العشرات، مضججون بالسلاح، فأمروني بإخلاء بيتي على الفور، وإلا سأرى ما لايرضيني، لكني تساءلت بغباء: إلى أين تريدوني أن أذهب وهذا بيتي؟، فرد عليَّ أحدهم موجها السلاح نحو صدري: إلى جهنم إن أردت، أفضل لك الصمت وتنفيذ التعليمات”.

وأضاف: “رفضت الإنصياع لأوامرهم وأنا أشاهدهم يأخذون ممتلكاتي من داخل الغرف، بل قرَّرت المقاومة، ساعتها لم أرى إلا السياط تنهمر على جسمي كله، وقد أصدر أحدهم أوامر قتلي ولكن كانت بالهم في الغنائم أكثر، فقيدوني ورموني على الأرض في ركن داخل البيت، وتفرقوا بين الغرف كل يبحث لنفسه شيئاً يغتنمه”.

وأفاد بأنه استغل فرصة انشغال الجنود بالسطو على منزله، فتسلل إلى سطح المبني ومنه نزل عبر الزواية إلى منزل مجاور، لكن سوء الحظ لازمه، حيث “وجد أمامه مسلح يحمل جهاز إتصال ويبدو عليه أنه قائد المجموعة، ساقه إلى ساحة منزل الجيران وكان فيه ثمانية مسلحون، قال لهم بأنه عثر على أحد مقاتلي الجيش، في محاولة للهرب، فأنهالوا عليه بالضرب والصراخ؛ فسقط أرضًا من شدة الخوف واستسلم للموت”.

وتابع: “كاد أن يغمى علي من شدة ألم السياط القاسية، لولا تدخل أحدهم يبدو عليه أنه قد تعرَّف على وجهي. ناداني بالإسم: أستاذ(ي)، أهذا أنت؟ فرفعت رأسي لوجهه رغم أني لم أتعرَّف عليه، لكني أجبته بنعم: أنا هو ذاته، فأمرني بالنهوض لكني عجزت لا أدري من تعب الضرب أم من سيطرة الخوف. إنحنى وأمسك بيدي وساعدني في الوقوف”.

وأشار المعلم إلى أن المسلح الذي انقذه من بين أيدي زملاءه أدعٍ إنه من اقربائي ولا علاقة ليَّ بالجيش، حيث عرفهم بأني معلم أعمل في المجال الإنساني قبل أن يحذرهم من مغبة ارتكاب أي انتهاكات ضدي.

يظهر أن ملامح ذاك المسلح لاحت على أذهانه، حيث أخذ تنهد بعمق وواصل حديثه: “هذا الرجل رغم أني لم أتذكره، لكنه أنقذ حياتي بعد أن إقترب الموت قاب قوسين. خرجت من الحي بملابس البيت، وتركت خلفي كل شيء: الملابس ومبلغ 15 ألف دولار في الخزنة والسيارة والركشة والتكتك وكل أثاث البيت والأجهزة الكهربائية. كل شيء تركته معهم”.

نزح المعلم إلى موقع لا يبعد عن مدينة زالنجي كثيرًا، فوجد حوالي 78 أسرة أي 400 شخص تقريبًا، سبقوه إليه، جميعهم لا يجدون ما يسدون به رمقهم سوى الفتات الذي يأتيهم من التضامن الاجتماعي الذي امتاز به السودانيين.

وقال برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة في 2 فبراير السابق، إنه تلقى تقارير عن أشخاص يموتون جوعًا، مشيرًا إلى أنه لا يستطيع تقديم المساعدة الغذائية بشكل منتظم إلا إلى شخص واحد من كل 10 أفراد بحاجة إليها

نحتاج إلى التفاتة رأفة من العالم

تحدث الإداري بمعسكر الحصاحيصا للنازحين بمدينة زالنجي “إ. ع. ع”، عن فقدان المخيم 47 شخصًا وإصابة 107 آخرين جراء الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، فيما نُهبت جميع أموالهم وممتلكاتهم.

وقال الإداري، الذي نزح من المخيم إلى أحدى الداخليات ــ سكن داخلي للطلاب ــ في أحد أحياء زالنجي، إن قوات الدعم السريع “إتهمونا زورًا بأننا نموِّل الجيش بالمؤن والماء، ونحن ما كنا نملك ما يكفينا المعاش، لكنهم استخدموا تلك الذريعة شماعة ليبرروا بها أفعالهم الشنيعة، ولإستباحة معسكر النازحين، وكانت جريرتنا كانت جوار معسكرنا لقيادة الجيش، والحق يقال: أنها كانت ذرئعة زائفة لنهب ممتلكات النازحين، ونية مبيتة للنيل منا”.

وأضاف، خلال حديثه لـ “دارفور 24”: “فقدنا في الحرب كل شيء، بل زادت من مأساتنا الفظائع التي صاحبتها من قتل واغتصاب، وقد فقدت الأسر الكثيرون من أفرادها الذين هربوا من المعسكر، لم يْعرف لهم مكاناّ حتى لحظة حديثي معك۔هذه الحرب اللعينة خلَّفت أعداداً كبيرة من اليتامى والأرامل ليس لهم من يعولهم سوى ربهم، وهو القادر على تدبير معاشهم، كما أن هنالك أسراً لم تصم رمضان هذه السنة لأنهم لايملكون ما يحللون به الصيام”.

وتابع: “ما نرجوه من العالم هو إلتفاتة رأفة نحونا، لأن الذي يعانوه أهالي غزة ليس أكثر مما نعانيه نحن هنا في دارفور، فقط نريد دعمنا بمواد الإيواء لأن الخريف على الأبواب، كما نريد غذاءاً عاجلاً ودواء”.

نهب كل شيء ذو قيمة

بعد أن مسحت الدموع التي تسللت من عينيها دون إراداتها وتنهدت بحرقة، تحدثت لـ “دارفور 24″، النازحة “خ. م. ع” التي فرت من منزلها الواقع بحي الإستاذ شرق قيادة الفرقة 21 للجيش بمدينة زالنجي، قائلة: “باغتتني حرب أبريل المشؤومة، وأنا أتجهز للعيد، كنت قد أشتريت دقيق الخبيز وكنت أنوي طلاء بيتي إحتفاءاً بالعيد الذي لم يتبقى له سوى أيام”.

وأفادت بأنها استيقظت صباح السبت 15 أبريل 2023، على أصوات القذائف والتفجيرات المروعة، فأنزوت مع أفراد أسرتها تحت الأسُّرة بعد أن البسهم الخوف ثوبه الثقيل من الرؤوس حتى أقمص القدمين.

تشرد النازحة ما وقع على الأطفال وقتها، قائلة: “أما الأطفال! الله الله على حالهم، فقد دخلوا في حالات من الهستيريا، وأصابت بعضهم حالة إكتئاب لم تخرج من نفوسهم حتى اليوم”.

ظل الرعب يسيطر على أسرة النازحة “خ. ع. ع”، عدة أيام، قبل أن يدخل أفراد مدججون بالأسلحة إلى منزلهم دون أن يلقوا تحية السلام، فأسرعوا في الانتشار داخل الغرف دون أن ينهبوا شيئًا.

وأضافت: “عند خرجوهم من الغرف إلى فناء لمحوا شقيقي يجلس في الراكوبه ومعه جارنا، فطلبوا منهما تسليم الهواتف الذكية، إلا أنهم ماكانوا يملكون سوى هاتفاً صغير، قالوا لهم: إننا نبحث عن هواتف كبيرة، لكنهم ردوا عليهم بأنهم لايملكون غير هذا الهاتف الصغير، فخرجوا بعد أن بحثوا قائمة الإتصال”.

وتتابع: “أستمر المقاتلين بالمداهمات اليومية، وكانوا يعترضون المواطنين خاصة الشباب منهم في الطرقات، يضربونهم أحياناً ويصادرون منهم الهواتف والأموال، وكانوا يتحججون بأن المواطنين يموِّلون الجيش بالماء والغذاء، وهو ما أجبرنا على الخروج من منازلنا بحثاً عن الأمان”.

وتشير إلى أن المسلحون وقفوا لهم بالمرصاد، أثناء رحلة النزوح، حيث أخضوعهم للتفتش الدقيق قبل أن يصادروا منهم الأموال والهواتف والمقتنيات الثمنية.

وتقول: “ما كنا نكترث لهم، لأننا كنا نلهث خلف الأمان. نزحنا وتركنا كل شيء خلفنا، وجئنا الى هذا المكان الذي كانت في السابق داخلية للبنات، ووجدناه بحالة مزرية، والحمامات متسخة ورديئة، فقمنا بتنظيفها وتهيئتها للإستخدام، لكن الأمان الذي كنا نبحث عنه كان مفقوداً هنا أيضًا، فقد لاحقنا المسلحون بتهديداتهم ومداهماتهم الليلية، ولم نسلم منهم إلا بعد استنجادنا بالإدارة الأهلية بالمدينة”.

وتضيف: “حالياً نعاني من غلاة المعيشة وانعدام الدعم، وما نتلقاها من المنظمات الوطنية لا تتجاوز مياه الشرب والصابون والقليل من أواني الطبخ، التي لا نجد أصلاً ما نطبخه عليها”.

وأدى انعدام الأمن وتوسيع نطاق النزاع، إلى عدم زراعة المحاصيل في الموسم الصيفي السابق وهذا ما انعكس جليًا في تفشي الجوع على نطاق واسع.

عقاب من نوع آخر

اضطر “ع. ع. إ” إلى الفرار من حي الحصاحيصا مربع 8 الذي يجاور مقر قيادة الجيش في زالنجي، إلى المخيم الذي يحمل ذات اسم الحي، بعد نزوح سكان حي الإستاد إليه في ظل استمرار تهديدات مقاتلي قوات الدعم السريع.

وقال لـ “دارفور 24”: “كنا نحسب أننا سنجد الأمان داخل معسكر النازحين لكن هيهات، فقد كان العذاب أبشع، وقعنا في مصيبة أكبر بعد أن حُوصرنا من كل الإتجاهات، ومُنعنا من الخروج والدخول، بل حُرمنا من مياه الشرب لشهرين، وبتنا نشرب من الخيران، ومياه المطر المتساقط من أسقف البيوت، والفضل الأكبر لرب العالمين الذي جاد لنا بأمطار الخريف، لولاها لمتنا عطشاً”.

وأضاف: “يوم السقوط كان عرضًا من مشاهد يوم القيامة. شاهدنا فيه كل أشكال الرُّعب من ضربٍ وقتلٍ وتعذيبٍ واغتصاب، بجانب السلب والنهب والإحتقار”.

وفرضت قوات الدعم السريع سيطرتها على مقر قيادة الجيش في زالنجي في 31 أكتوبر 2023، وهو يُعرف شعبيًا بـ “يوم السقوط”.

ونزح “ع. ع. إ”، مرة أخرى مع أسرته من مخيم الحصاحيصا بعد سيطرة الدعم السريع على مدينة زالنجي، قبل أن يعود إليه بعد بضعة أيام لتفقد الممتلكات التي تركها خلفه من أجل أن تُساعد ولو بالقليل في تحمل أعباء المعيشية.

ويقول: “ليتني لم أعد.. فقد وجدت المعسكر أستبيح تمامًا، حتى أن بيتي وجدته يعج بالمسلحين، الذين انهالوا عليَّ بالضرب دون سابق إنذار، ضربوني بغبن، وطالبوني بالإعتراف لهم بإنتمائي لإستخبارات الجيش، وأني ما جئت إلا لجمع المعلومات. قلت لهم بأني مواطن جئت أبحث عن باقي أملاكي التي تركتها هنا، وأن هذا البيت هو المكان الذي نزحت منه بسبب الحرب، وقدمت لهم من الأدلة والبراهين ما تؤكد قولي، لكنَّ يبدوا عليهم أنهم كانوا يريدون مني فقط التنازل عن ممتلكاتي، لأنهم منعوني آخذ أي شيئ، طردوني خارج البيت وأطلقوا خلفي ذخائر بكثافة”.

ويضيف: “انسحبت مجرجراً أذيال الهزيمة نحو مركز النزوح هذا، وظللت فيها أتحسر على مالي وممتلكاتي التي راحت، وليس الحال هنا أفضل لكنا مجبورون، تزداد الهموم فوقنا همّاً على هم”.

ويختم حيثه: “منذ دخولنا مراكز النزوح لم نتلقى من الدعم سوى القليل الذي لايكفى ليوم واحد، واليوم سعر مد الدخن وصل لمبلغ 3500 جنيه ونحن لانملك المال الذي نشتري به الذرة دعك من الدخن، كما أننا لم نتمكن من زراعة هذا الموسم بسبب المهددات الأمنية، وحتى أنه عندما جاءت المنظمات بالمواد التموينية، اعترضت قيادة توزيعها الدعم السريع بذريعة أننا رفضنا الإنصياع إلى تعليماتها بالعودة إلى معسكر الحيصاحيصا التي دمرتها، وعند إستنجادنا بالإدارات الأهلية، تنازلوا لنا من ثلث المواد وأخذوا الثلثين، ولم تكفينا تلك المواد لوجبة يوم وأحد”.

وتعتبر هذه الشهادات عن صنوف الانتهاكات البشعة، مجرد قطرة في محيط الروايات المأوساية التي صادف تواجد ضحاياها بين طرفي النزاع الذي يختلفون في كل شيء سوى ارتكاب مزيدًا من الفظائع بحق المدنيين.