كتب عبد المنعم مادبو

قبيل اندلاع الحرب بأقل من أسبوع كنت أخطط سراً لأفاجئ شريكة حياتي “صباح” بشئ أعبر به عن احتفال مصغر لمناسبة مرور 10 سنوات على زواجنا ورحلة حياتنا التي بدأناها يوم 24 أبريل 2013م، لكن قبل أن أفق من شرود التفكير في هذه المناسبة وقع علينا كابوس “الجيش والدعم السريع” في 15 أبريل الماضي، وأحال البلاد الى أشلاء ورماد، ودمر الحجر وقتل وشرد البشر. هذا الكابوس أحال الحياة الى حجيم بالسودان عامة، ومدينتنا “نيالا”، وحكم علينا بالفراق.

لم أكن أدري أن قرار الابتعاد عن أفراد الأسرة الصغيرة، زوجتي وابنائي، بهذا الحجم من القسوة، لكن في ظل الظروف التي تمر بها البلاد، فإن اتخاذ القرار الذي يوفر لك ولأسرتك الحياة بات محسوماً وإن كان قاسياً.

ففي مدينة نيالا عاصمة جنوب دارفور، قضينا خلال 40 يوماً من موعد اندلاع الحرب، على كل مدخراتنا من المواد العذائية وما نملك من أموال حتى بلغنا مرحلة عندما نستيقظ الصبح على أصوات البنادق والقذائف لا ندري من أين نوفر للأطفال وجبات اليوم.

لذلك كان قرار مغادرة المنزل والمدينة هو القرار الأوحد ولا خيار غيره، فاضطررت الى ارسال زوجتي وأطفالي الى والديّ في قريتي الصغيرة “مركندى” التي تبعد نحو 130 كيلو متر غربي مدينة نيالا عاصمة جنوب دارفور، وغادرت انا إلى مكان آمن وصلت إليه براً بعد اجتياز حدود ثلاث دول.

فرار بين هدنة وأخرى

كنت وشريكة حياتي “صباح” نناقش لأكثر من أسبوعين أمر مغادرة منزلنا بحي المطار في مدينة نيالا والافتراق لحين تتحسن الأوضاع في البلاد، بعدما جمعتنا 10 سنوات بالتمام والكمال. لكن كما بدأنا مشوار حياتنا المشتركة في 24 أبريل 2013م، قررنا الافتراق بعد شهر من الذكرى العاشرة يوم 23 مايو 2023م.

بعد النقاش استقر أمرنا على سفرها هي وأطفالنا الى أسرتي الكبيرة في قرية “مركندي” مع أمي وأبي وأشقائي، وأسافر أنا بحثاً عن ما يوفر لهم حياة كريمة، فبالطبع إن الحياة بعد الحرب لم تكن بأي حال من الأحوال كما قبل.

ففي صبيحة 23 مايو 2023م، دخل اتفاق جدة لوقف اطلاق النار بين “الملعونين”، الجيش والدعم السريع، حيز التنفيذ بنحو 10 ساعات، فكانت فرصة الخروج من المدينة التي اكتظت بالعسكريين وعصابات النهب التي تستغل الدراجات النارية، وكانت السيارة في انتظاري في أحد الأحياء الشرقية للمدينة، بما أن الخروج بالطرقات الرئيسية لمحطة السفريات عُرضة لنشاط هذه العصابات. حتى تحرك السيارات السفرية من المحطة يجعلها عرضة كذلك لعمليات الرصد وقد يتعرض المسافرون لحوادث النهب في الطريق.

حملني شقيقي “عدنان” على عربته الصغيرة “تكتك” الى حيث تنتظرني السيارة ومن ثم انطلقنا بالطرقات الجانبية خروجاً من المدينة الى عاصمة ولاية شرق دارفور “الضعين” التي وصلناها بعد أربع ساعات.

هناك وجدنا المدينة هادئة مستقرة لم يصبها ما أصاب الخرطوم ونيالا والفاشر وزالنجي والجنينة، رغم المحاولات لاغراقها في مستنقع الحرب، إلا أن تصدي قادة مجتمعها كان أقوى من تلك المحاولات، فظلت الضعين كما هي، فقط تلهبها درجات الحرارة المرتفعة التي تسبق موسم الأمطار.

أمضينا يومين مع صديقنا عبد الرحمن جبورة وإلتقينا بعدد من الأصدقاء والزملاء في الضعين منهم خليفة كشيب وكنت أرغب في مقابلة صديقي محمد صالح البشر تريكو لكنه كان خارج المدينة. واصلنا الطريق الى جنوب السودان حيث شاهدنا النساء اللائي يصنعن عجينة الدخن ويقفن بها “كرامة لوجه الله” لاكرام المسافرين الى الجنوب، ويجعل الواحد منا يسأل عن الفرق بين حدود الدولتين.

بعد يومين في مدينة الضعين، انطلقت بنا اللاندكروزر فجر الخميس 25 مايو تطوي المسافات نحو جنوب السودان، لقطع ما يقارب الـ400 كيلومتر من الوعورة والأراضي الخصبة، لكن ما لفت انتباهي مسنات وفتيات يحملن جرادل واوان معدنية، ويقفن في الطريق ويؤشرن للسيارة للتوقف، سألت السائق ماذا تفعل هؤلاء النسوة؟ فذكر أنهن يقدمن “العجينة كرامة للمسافرين” يا الله، لله دركن نساء بلادي، ربما بسبب هذه الصدقات “الكرامة” حمى الله شرق دارفور من هذا الشر المستطير.

لكل سائق ترسانته

سائق السيارة “ط ب” شاب ثلاثيني يبدو عليه أنه متمرس في القيادة في هذا الطريق الوعر، ذكر لنا أنه يعمل في هذا الطريق منذ العام 2014م فعرفه جيداً وهو يطمئننا بثقته في عدم مقابلة عصابات نهب مسلح. وإن قابلناهم فهو لهم في المرصاد، ويشير الى رفيقه الدائم “ش” الذي يركب في أعلى السيارة ويحمل معه بندقية كلاشنكوف وكيس “ابكركو” مملوء بالذخيرة.

أثناء السير، روى لنا السائق أن الأمطار إذا هطلت، ستمنع السيارات من الوصول الى الحدود، لا بل عليها أن تتوقف على بعد نحو 100 كيلو متر من الحدود في منطقة تسمى “الكَبُو”، أمضينا فيها قسطاً من الراحة قبل أن تستأنف اللاندكروزر طي المسافات الوعرة.

وبالتزامن مع وداع شمس ذاك اليوم، وصلنا إلى منطقة “الرقبات” الحدودية حيث عبر بنا السائق سوق المنطقة الى استراحة خاصة بهم، وطلب منا أن لا نذهب إلى المطاعم لتناول وجبة العشاء، وهو كان يخطط لذلك العشاء الفخيم بعدما اصطاد دجاجات برية ببندقيته “الخرطوش”.

تناولنا العشاء وخلدنا للنوم الى أن ايقظتنا في منتصف الليل زخات المطر التي أحالت الأجواء الى أكثر من رائعة، ثم أمهلتنا لاكمال ليلتنا بنوم عميق، قبل أن تعاود مرة أخرى بالتزامن مع اعداد شاي الصباح باللبن المقنن، حتى كادت أن تفسد علينا متعته.

لكن الرحلة داخل الوطن، حتى للفرار من القتال، أرأف من الاقامة خارجه. حين وصلت الى مقر اقامتي الجديد في كمبالا، عاصمة يوغندا، بدأت بتعداد الأيام لعودة عائلتي لي، الغُربة، رغم الأمان، فراغ داخلي وخارجي. حتى الطريق الى هنا بكل محطاته ومخاطره كان أقل أثراً من أيام تمر عليّ وأنا أشعر كأني وعاء فارغ. الأيام الأولى صعبة جداً، ولكن ما يزيدها صعوبة وضغطاً اشتداد المعارك في مدينتي التي غادرتها وهي تعيش تحت رحمة نيران الجيش والدعم السريع وقتالهما الذي آمل أن يتوقف كي نلملم بقايانا ونضمد جراحنا ونجمع شملنا.