هم أطفال يمكن أن تطلق عليهم ضحايا حرب أو فقر، قزفت بهم متاهات الحياة نحو المدينة، عمالة رخيصة تبحث في تلال القمامة عن شيء له ثمن.. يركضون خلف عربة نفايات المحلية بملابسهم الرثة، تتشبث أيادهم بها وهم يتأرجحون بين السيارات العابرة للطريق فتخفق قلوب الماره لخطورة المشهد، حين يرونهم معلقين عند باب تلك العربة وهي تمضىي بهم وإبتسامتهم البريئة يوزعونها بصدق على سالكي الطريق.. تبدو ملامحهم أكثر تعبا وأرهاقاً، حتى جعلتهم أكبر من سنهم الحقيقية، خلف تلك الإبتسامة والملابس الرثة تختبئ معاناة أطفال دفنوا طفولتهم تحت قباب (القمامة).

الموسم

مع بداية كل عطلة صيفية يهلل الصغار فرحين بالعودة لمربع اللعب في شوارع الأحياء، والجلوس أمام شاشة التلفزيون للإستمتاع بقنوات الأطفال، فيما يحزم البعض أمتعهم للسفر خارج البلاد، ولكن ما بين هذا وذاك من يقضون عطلتهم الصيفية حسب الظروف، في رصيف موقف المواصلات كغيرهم من الصبية الباحثين عن رزقهم وسط زحام المارة أو خلف عربة جمع النفايات ينقبون عن شيء يباع.

هنا تبدأ حياة ويتشكل مجتمع برئ في ملامحه، أطفال وراء عربة النفايات يجرون أكياس القمامة ومعها أحلام بريئة.

في ذلك الصباح كانت عربة النفايات تسير ببطء يتأرجح خلفها أحد العمال يبدو في سن صغيرة ولكنه ليس طفلاً يحمل أكياس القمامة ويعود بها مسرعاً للعربة التى تواصل سيرها بذات البطء وعامل النفايات ببزته المميزة يُظهر موهبته في سرعة جمع القمامة من الطريق، وسط تلك الأجواء طفل ذو ملابس رثه يتبع عامل النفايات الشاب ويفعل مثله تماماً وكأنه تلميذ تحت التمرين يركض ويتارجح ويجلس على تل القمامة في العربة.. هذا المشهد يتكرر كل يوم عربة نفايات وعمال وأطفال خلفها ولكن لا أحد يدرك كيف يعيش هذا الطفل وسط القمامة وماذا يفعل؟.

خلف أحد الأسواق كانت مجموعة من الأطفال تتراوح أعمارهم ما بين التاسعة إلى السابعة عشر يتحركون في جماعة يبدو عليهم الإنسجام وهم يحملون على ظهورهم (أكياس بلاستك). على ملامحهم فرح فهم. يركضون تارة ويبطئون السير مره أخرى، يظن المرء أنهم مشردون مظهرهم يدعوا للشفقة. وجوههم مغبرة حتى أختفت خلف الغبرة بعض الملامح.

كنت أرمق سيرهم من بعيد وهم متجهين صوب القمامة والخرد، وفي ذهنى الطريقة التى أدلف بها لعالمهم دون رفض لوجودى.. أقتربت منهم وصافحت أكبرهم سناً و يدعى (تحسين) مد يده ببرود فيما أبتعد الأخرون، رغم محاولتى إقناعهم بأننى لست كائناً غريب يريد بهم شراً ولكنهم لاذوا بالصمت وأدروا ظهروهم للمغادرة.

لم يكن هناك خيار سوى أن أتبعهم كنت أسير معهم وأتحدث إليهم وعندما شعروا بأن وجودى ليس خطراً عليهم بدأ الحديث بيننا حينها وصلنا للمكان الذي يبيعون فيه ما تحصلوا عليه من خرد كانت ملقاة في القمامة، وضعوا أثقالهم من على ظهورهم وأخذ (تحسين) يحدثنى عن حياته ولماذا هو هنا.

الحافة

يغادر تحسين منزله القابع في أطراف مدينة الثورة أم درمان صباحاً بعد أن أغلقت المدارس أبوابها، على أمل العودة نهاية اليوم وفي يده جنيهات يدخرها لشراء ما يرغب فيه، يقطع المسافة البعيدة وهو يجوب من (كوشة لكوشة) حاملاً (شوال البلاستيك) يضع فيه حصاده حتى يصل محل بيع الخرد الواقع خلف ذلك السوق، مع مجموعته التى تشاركه ذات المهنة (التنقيب في القمامة).. لم يكن الصبى الصغير ذو التسع أعوام مهتماً بالدراسة كثيراً حسب حديثه وأن حصاده الأكاديمى لم يتجاوز درجة مقبول، كل همه حصوله على مال يشترى به ما يشاء ولكن كيف لصبى في عمره يترك لرغباته  وحر تصرفه وفي يده مال وهو يشعر بأنه ملك قوته وقراره في كل شيء؟.

(تحسين) بدل ملابسه لبدء عملية الفرز لحصاده والعمل في مملكته ظننت أن الملابس التى إرتداها إستخرجها من القمامة التى تحيط به من كل جانب ولكنها ملابس العمل بدت أسوا من التى خلعها.. لم يهتم (تحسين) لوجودى وكان شغله الشاغل عمله هو والصغار الأخرين الذين يقطنون في نفس منطقته ويشتركون معه في المستوى الأكاديمى (درجة) مقبول هذا غير الذين لم يعد لهم وجود في مقاعد الدراسة فقد غادروها طوعاً لهذه الحياة.. يقضون سحابة يومهم في مهنتهم المحببة ويعودون إلي أسرهم دون أن يواجهم سؤال أين كنتم وماذا فعلتم؟

السقوط

أن كان (تحسين) ومجموعته يركضون خلف عربة القمامة من أجل تحقيق حلمهم وهو الحصول على مال، هناك من إنتهت بهم تلك الأحلام بالسقوط من الحافة التى يقف فيها (تحسين) إلي الهاوية حيث يعيش في داخلها صبية أعمارهم تحت السابعة عشر تجدهم ينظرون إلي من حولهم بنظرات زائغة ويجوبون المكان بخطوات مترنحه وعلي أفواهم قطعة قماش أقل ما توصف به أنها متسخة، توضع بداخلها مادة (السلس) المخدرة والتى تذهب بعقول وأحلام هؤلاء الصغار. الصبى (محمد) بدأ مشواره في الكوشة جامعاً للنفايات، حيث وجد عالمه وراء عربة القمامة وهو يتحصل على مال من المهنة غير المكلفة والمكان المناسب لها أي خلف الأسواق الخارجة عن الرقابة إنزلقت أقدامه الصغيرة في عالم متعاطى (السلس) وصار مدمناً.

كان يحدثنى وهو يحاول أن يحافظ على وعيه مبدياً رغبته في الإقلاع  عن السم الذى سرق حياته وجعله يترك المدرسة ويعيش في عالم اللاوعى، وتنتهى أحلامه طالما ركض لتحقيقها وراء عربة القمامة إلي هذا المكان.

(محمد) حدثنى عن دخله اليومى من مهنة جمع المواد البلاستكيه وبيعها في الخرد وأنه يعطى أسرته جزء من دخله الذى لا يتجاوز الـ (30) جنيهاً يومياً.

حالة نصف الوعى التى كان عليها (محمد) غابت تماماً عن ملامح زميله في المكان ويدعى (معتصم)، الذي كان يحاول الوقوف جاهداً لمقاومة السقوط من شدة الإدمان، وهو يضع صباع (السلس) على فمه ربما لم تعد المادة وهى في لفافة القماش القذرة مجدية، لذا وضع معتصم الصباع بكامله في فمه، كان يتحدث معى وكأنه يضع (كدوس)، وملابسه الممزقة وبنطاله الذى يكاد أن ينزلق من جسده النحيل المكسو بغبرة مستقرة في جلده المتشقق يفضح فصاحته وهو يظهر أنه واعى ومدرك لما حوله حدثنى في بادى الأمر على أنه وحيد ثم أردف قائلا ًأن له أحلام يريد أن يحققها فهو يرغب أن يكون (دكتور) مثل أخيه سخر منه زملائه وهم يشعرونه بخطأ حديثه المتناقض فاستسلم وعادت أحلامه تناسب واقعه المرير وهو يقول أنه يريد أن يكون أي شيء (أنشاء الله جنا سلس) حسب أمنيته القريبة المنال.

لم يخفى معتصم حقيقة أنه سرق من أجل الحصول على مخدر (السلس) الذي تبلغ تكلفته (4) جنيهات، وقال أنه نادم على ما يفعله وأبدى رغبته في إقلاعه عن الإدمان هو يريد أن يعود كما كان قوى يستطع فعل أي شيء، كما يفعل من بعمره ولكنه لم يعد قادراً، لأنه يمشى وكأنه بلغ الشيخوخة، يلقى بجسده المنهك على الأرض في بيئه تعافها الحوانات خلف ذلك السوق، ينام وكأنه على سرير وفرش من ريش النعام ثم يستيقظ متثاقل يفرك جفنه وفي باله شيء واحد الحصول على (مخدر السلس) للعيش في عالم صنعه لنفسه ومهدت له ظروف حياته هو يعيش في أسرة الأب مستقر في أقليم دارفور ووالدته وإخواته يعيشون في أطراف أمدرمان تمتلك والدته محل صغير تبيع فيه بعض المستلزمات حسب حديثه غير المتوازن.

معاناة الأطفال خلف عربة القمامة وتلال النفايات مستمرة نواصل سردها وتحليل ظاهرة الصغار الذين يعيشون حالة تشرد شبه كلي.