منذ الإطاحة بحكم الرئيس عمر البشير، يعيش السودان صراعاً بين المتظاهرين الذين أطاحوا بالبشير والمجلس العسكري الذي يتولى السلطة.

وقتل عشرات المتظاهرين خلال قمع السلطات للمعتصمين أمام مقر قيادة الجيش قبل أسبوع، فردت قوى المعارضة السلمية على ذلك بتنفيذ عصيان مدني في كل أنحاء البلاد.

شارك محرر الشؤون الأفريقية في بي بي سي، فيرغال كين، في جولة نظمتها السلطات الحاكمة لتبييض صفحتها لكنها أتت بنتائج عكسية.

أعتقد أحدهم في السلطة الحاكمة أنها فكرة جيدة لو قام الصحفيون بجولة للصحفيين ليشاهدوا بأنفسهم “الأعمال المشينة” التي كان يقوم بها المتظاهرون خلال اعتصامهم أمام القيادة الأمر الذي استدعى إرسال ميليشيات عسكرية لضبطهم.

وباستثناء اللحظة التي وصلنا فيها إلى أول مركز طبي، كانت كل الأمور سيئة.

كانت مجموعات من قوات الدعم السريع تتسكع على جانبي الطريق، ولم تكن هناك إلا نقطة تفتيش صغيرة أمام معهد المكفوفين، فوجئ عناصر الميليشيا عندما اقتربنا وصاح أحدهم “ممنوع الكاميرات ممنوع”.

وكان أغلبهم يحملون الهراوات التي استخدموها في ضرب المعارضين خلال الأيام القليلة الماضية. وهم معروفون الآن في الخرطوم باسم “الجنجويد الثاني” في إشارة إلى حقيقة أن الكثيرين قد خدموا في تلك القوة الوحشية التي كانت تستخدم لترويع المدنيين في دارفور.

انتقلنا إلى داخل المبنى ونحن محاطون برجال الميليشيا، وقوبلت أي محاولة لتوجيه الكاميرا نحوهم بتحذيرات غاضبة.

كنا نسترشد بموظفي وزارة الصحة الذين أظهروا لنا سلسلة من المكاتب التي تعرضت للنهب. وكانت الملفات متناثرة على الأرض، وشاهدنا حطام المعدات الإلكترونية.

تابعنا أحد رجال الميليشيا. كانوا متوترين وقال أحدهم: “تحتاج إلى تصريح للتصوير”، بينما كان يجرى مكالمات هاتفية.

ومن أغرب الأشياء التي شاهدتها، قائد ميليشا يسير عبر البوابات وهو مبتسم.

اتصل هاتفيا برئيسه، أو ربما بمسؤول آخر، وسُمح لنا بالتصوير، لكن طلب عدم إظهار أي شخص يرتدي الزي العسكري.

طلب منا مدير الصحة اتباعه لنتمكن من رؤية المختبر الذي تم نهبه، كانت أنابيب العينات المحطمة مبعثرة هنا وهناك إلى جانب العديد من الملفات المنتشرة على الأرض.

وقال المتحدث باسم الوزارة حسن عبد الله إن كل هذا قام به المتظاهرو، وأضاف لقد اقتحموا المكان ودمروا كل المعدات. بدا لي أنه يلقي علينا نصاً حفظه عن ظهر قلب.

سألته هل تؤمن فعلاً أن العنف والدمار تسبب به المتظاهرون وليس الميليشيا؟ لم يستطع الجزم وقال: “لقد وقع الهجوم. لكنني لا أعرف بالضبط من فعل ذلك، لقد تم تدمير كل شيء هنا”.

تجولت في الخارج والتقيت ببعض الناس والشهود، كانت هناك روايات أخرى غير الرواية الرسمية التي سمعتها.

وقال شاهد عيان كان في مكان الهجوم، في الثالث من يونيو/حزيران الجاري في الساعة الخامسة مساء، دخل ما بين 100 و150 من الميليشيات المبنى، تزامناً مع هجوم الميليشيات، كان هذا عندما تم الهجوم على المتظاهرين أمام مقر عسكري قريب، وأكد شاهد عيان آخر روايته.

وقال لي “لقد شتمونا وضربونا وحطموا الخزنة وأخذوا كل الأموال، لم يتركوا شيئاً إلا وأخذوه أو حطموه، لقد سرقوا ساعتي ومحفظة نقودي”.

ثم انتقلت جولتنا إلى مستودع طبي حيث كانت هناك صفوف من الأدوية المكدسة، تم تمييز العديد منها بكلمة “Release” أي تحرير. وكان ذلك لتأكيد كذب المعارضة ولتظهر أن الميليشيات لم تمنع توزيع الأدوية التي كان الناس بأمس الحاجة إليها.

المحطة التالية كانت أم درمان، حيث شاهدت المزيد من سيارات الجيب التي تحمل رجال الميليشيا المسلحين بالبنادق وقاذفات القنابل. بدت قوات الدعم السريع وكأنها جيش احتلال لا قوة أمنية داخلية.

وكل ما توصلت إليه هو أن الهدف من زيارتنا إلى مستشفى أم درمان كان لإقناعنا بأن المستشفى عاد إلى الخدمة بشكل طبيعي بعد توقفه خلال اليومين الماضيين.

قُطعت الموارد عن المستشفيات بسبب العصيان المدني الذي شلَّ حركة المدينة، الأمر الذي دفع بالأطباء لأن يصبحوا قادة لحركة الاحتجاج.

وفي قسم الإسعافات المزدحم، قابلنا عائلة علي عمر هلال (45 عاماً) ، الذي مات أثناء انتظاره العلاج.

قالت والدته، حواء فرج عامر، إنه توفي جراء مرض السكري، نقلته العائلة إلى عيادة قريبة من المنزل في قرية خوستي خارج الخرطوم، لكن لم يكن هناك طبيب. وعندما وصلوا إلى الخرطوم وجدوا أن مستشفى أم درمان كان مغلقًا أيضًا.

كان الميت يرقد تحت ورقة على نقالة مستشفى، ووضع شقيقه الأصغر الذي بدا مذعوراً ومنهاراً على نقالة أخرى، وكانت أخواته ووالدته يحاولون التخفيف عنه.

وخارج المستشفى، توقف رجل في منتصف الطريق عن قيادة شاحنته المتواضعة مع مجموعة من الأطفال في صندوق الشاحنة وقال: “يجب أن يتدخل المجتمع الدولي، لا يوجد سلام هنا، الناس يعانون كثيرًا، أنا أخشى على بلدي”.

هذه وجهة نظر عامة الناس. لكن المذهل حقاً هو عدد الأشخاص الذين لا يزالون يرغبون بالتعبير عن رأيهم علناً في الأماكن العامة.

الإرهاب الذي تمارسه المليشيا لم يرهب المعارضة. لكن علامات القمع المتجذرة ظاهرة.

وسائل التواصل الاجتماعي كانت أداة أساسية لتعبئة الجماهير في حركة الاحتجاج. كما قامت الحكومة بترحيل ثلاثة من زعماء المعارضة إلى جنوب السودان، في إشارة واضحة إلى أنها غير حريصة على استئناف المحادثات بحسن نية للسماح بالانتقال إلى الحكم المدني.

كانت الإشارات واضحة عندما بدأوا في اعتقال شخصيات معارضة شاركت في جهود الوساطة التي قام بها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد الأسبوع الماضي. جرت الاعتقالات بعد المحادثات مباشرة.

سيعود آبي في وقت لاحق هذا الأسبوع ومن الصعب أن نرى كيف سيردم الفجوة بين النظام العسكري الذي يفرض سيطرة أكبر من أي وقت مضى وحركة معارضة مشتتة وتتهاوى الآن.

كان هناك بصيص أمل عندما علق الاتحاد الأفريقي عضوية السودان الأسبوع الماضي.

لكن الجنرالات احتفظوا بهدوئهم، وخاصة قائد قوات الدعم السريع حميدتي، لعلمه بدعم القوى الإقليمية في مصر والإمارات والسعودية له.

ويعد حميدتي الشخصية المفضلة والموثوقة بها لدى السعوديين بسبب دعمه لحربهم في اليمن ضد الحوثيين.

كما يمثل شخصية صارمة يمكنها فرض السيطرة على الأوضاع واستمرار القمع الذي يشعرون بالراحة فيه.

وفي الأيام الأخيرة، كتب مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون تغريدة قائلاً: “الطريق إلى الأمام لا يمكن أن يكون أكثر وضوحاً، يجب على المجلس العسكري الانتقالي إنهاء العنف ضد المتظاهرين السلميين، والإسراع في نقل السلطة إلى حكومة يقودها المدنيون. فالعالم يراقب “.

ولكن هل حقاً الأمر كذلك؟ وإذا كان كذلك، فما مدى قربه وماذا سيفعل لإنهاء حكم الخوف؟ البديل الآخر قاتم، البعض يحذر ويدين لكن الأحداث الأخرى تتداخل.

الاهتمام الدبلوماسي القليل الذي ظهر مؤخراً يتلاشى، وتحول وسائل الإعلام اهتمامها إلى الأزمات الأخرى. فالعالم لا تنقصه مآسٍ ودراما إضافية.

ويصبح القمع هو القاعدة السائدة في السودان وتتلاشى آمال الانتقال السلمي، وسيكون ذلك محزناً جداً لكل من عايش الشعب السوداني.

نقلا عن BBC