الخرطوم- دارفور24
تقولُ أمل إسماعيل، شقيقةُ الشهيد محمد إسماعيل ودعكر- أيقونةُ الاختفاءِ القسري في السودان- إنَّ أسرَتَه، طوالَ أشهرِ اختفائه لم تترك باباً إلَّا وطرقته.
المعاناةُ التي تفاقمت بتعمُّدِ الجهاتِ الرسميَّةِ إخفاءَ المعلوماتِ؛ وأحيانًا إعطاءَ معلوماتٍ مغلوطةٍ ومضلِّلةٍ، لم يزِد أسرةَ عاشق اللون الأصفر إلا تمسُّكاً وإصرارًا غلى مواصلةِ البحث عن ابنها.
ليست الصدفةُ وإنَّما القدرُ هو من قالَ كلمتَه. تؤكد “أمل”، أنَّ المحاولاتِ المستميتةَ لِذرِّ الترابِ على حقيقة ما حدث لشقيقها؛ باءت بالفشل.
من داخلِ منزلِ الأسرةِ المفعمِ بالحياةِ رغمَ ضخامةِ الفاجعةِ، تحدَّثنا، عن حياته، نشأته، حبه للسودان، للثَّورةِ، للعدالةِ، وللَّون الأصفر.
حدثينا عنه؟
وُلدَ الشهيدُ محمد إسماعيل ود عكر، في الولايةِ الشماليَّةِ سنةَ (1989).  نشأَ بمدينةِ دنقلا، ثمَّ انتقلَ للدراسةِ بالعاصمةِ الخرطوم. تلقَّى تعليمَه لمرحلةِ الأساسِ بـ”امتداد ناصر”، وظلَّ مواصلًا حتى المرحلة الثانويَّةِ. كانَ – على الرُّغم من عدم اكتمال تعليمِه – متميزًا في دراسته محبًّا للمعرفة. عُرِفَ بعشقه لكرة القدم؛ في الآونة الأخيرة اتجه للأعمالِ الحرفيَّةِ فأجاد أعمال الكهرباء والإلكترونيَّاتِ و”الحلاقة”. لود عكر، عددٌ من الإخوة يتوسَّطُهم في الترتيب.
ثائر منذ صغره؟
كانت لديه آراءُ واضحةٌ ضدَّ حكومةِ الإنقاذِ منذُ صغره. انتقدَ – بوضوحٍ – أداءَها وما تقوم به. أمَّا حراكُه الثَّوري، فقد بدأ بمناهضةِ قراراتِ الحكومةِ السابقةِ بإزالة “كمائن الطوب”، في منطقةِ الجريف شرق. وعندما اندلعت ثورةُ ديسمبرَ المجيدة، تقدَّم “ودعكر” صفوفَها الأماميَّة.
ماهو سرُّ حبه للون الأصفر؟
مافي سبب معين؛ كان بحب اللون الأصفر، وبحب يلبسه كتير، اكتشفنا أنَّ أغلبَ ملابسه لونها أصفر.
قليلُ الكلام
لا يتحدَّثُ كثيرًا، لا يمكنني القول بأنَّه ناشطٌ سياسيٌّ، مطلقًا. ود عكر شخصٌ “ميدانيٌّ”، دائمًا ما كان يقودُ المواكبَ ويتقدَّمُها في مختلف أحياء الخرطوم وضواحيها.
أحلامه
بسيطة شديد، كان بيحلم بالحريَّةِ والسلامِ والعدالةِ، وأن يحصل كل مواطن على حقه في التعليم والصحَّة والسكن؛ ليس في العاصمة الخرطوم فقط، وإنَّما في كل ولايات السودان. كانَ يرفض –  تمامً-ا أن يعيشَ بعضُ المواطنينَ في معسكراتِ النزوحِ، بينما ينعمُ آخرونَ بالعيشِ في القصور والمباني الشاهقة.
*دفعَ ثمنَ هذه الأحلامِ كثيراً، اذ تعرَّضَ للاعتقالِ مرَّاتٍ عديدةٍ إبَّانَ فترة النظام البائد، ولم يزده الاعتقالُ إلَّا إصرارًا وتمسُّكًا بما يؤمن به.
*حكى ليك عن “6” أبريل لحظةَ دخوله القيادةَ؟
 كانَ ضمنَ الذين تمكَّنوا من دخول القيادةِ العامَّة ضمن المواكب “6” أبريل وظلَّ معتصمًا هناك إلى أن تعرَّضَ لإصابة في الرأس أثناءَ الهجمةِ على “ترس” شارع النيل في الثامن من رمضان، وأصرَّ على العودةِ عقب تماثُله للشفاء مباشرةً.
 نجى من الموتِ- بأعجوبةٍ- عشيَّةَ فضِّ الاعتصام.
عادَ إلى المنزلِ في تمامِ الساعة الواحدة صباحًا؛ قبيل “٤”ساعاتٍ فقط من جريمة فضِّ الاعتصام، ولكنه فورَ علمِه بما حدث، هُرِعَ مسرعًا بمعيَّةِ الثُّوَّارِ إلى القيادةِ العامَّةِ، بيد أنَّهم لم يتمكَّنوا من الدخولِ بسببِ الشوارع المغلقة.
هل عانى لفترةٍ طويلةٍ من آثارِ جريمة فضِّ الاعتصام؟
 حدث تحوُّلٌ كبيرٌ في شخصيَّته بعدَ مقتلِ وإصابةِ بعضِ “التروس” الذين كانوا معه في اعتصام القيادة العامَّةِ. ما حدثَ سبَّبَ له أذى نفسيًّا جسيمًا، وكانَ دائمً يردد: “يا نجيب حقَّهُم؛ يانموت زيَّهم”.
 اعتادَ الذهابَ إلى الجدارياتِ تخليدًا لذكرى الثَّورة، كان بمشي كل شهر، كما كان يذهبُ متفقدًا أسرَ الشهداء، وهب وقته وحياتَه للثَّورة.
اختفاؤه خلَّفَ صدمةً عنيفةً وحالةً من الخوف لدى أسرته وأصدقائه
أذكرُ أنَّه خرجَ ذلكَ اليومِ، في تمامِ الثامنةِ صباحاً- مسرعاً- وقد علمتُ لاحقًا أنَّه ظلَّ مع أصدقائه الثوَّار بالجدارياتِ حتى الخامسة مساءً. أخبرهم بعدها أنَّه سيعودُ إلى المنزل. طلبوا منه البقاءَ والانتظارَ حتى “المغرب”، ومن ثمَّ التحرُّكُ في مجموعةٍ، لكنَّه اعتذرَ منهم وأشارَ إلى أنَّه “مستعجل”… ثم اختفى! حتى أصدقاؤه لم يلاحظوا أيَّ الطرق سلك، وفي أيِّ الاتجاهات مضى.
هل تعتقدينَ إنَّه تلقَّى مكالمةً من جهةٍ أو شخصٍ ما؟
لا؛ لم يكن بحوزته “هاتف”، لم يكن معه سوى “شريحة” وضعها في جيبِ بنطاله.
متى شعرتُم بأنَّ الأمرَ تعدَّى مرحلةَ الانشغالِ مع الثوَّارِ إلى مرحلة الاختفاءِ القسري؟
في بدايةِ الأمرِ اعتقدنا أنَّه قد يكونُ منشغلًا مع ثوَّار أم درمان، بالإعدادِ لمواكبِ تخليد ذكرى “6”أبريل، وذلك عقب سؤالنا وبحثنا عنه لدى ثوَّارِ منطقةِ الجريف شرق، ولكنَّهم قالوا إنَّهم لا يعلمونَ عنه شيئًا.
رحلةُ الاختفاء
 بعدَ مغيبِ شمسِ 6 أبريل، بدأت خيوط ٌمن الخوفِ والقلقِ المتزايدِ تتسرَّبُ إلى الأسرة. سألنا عنه مرارًا دون جدوى. انتظرناه حتى ساعاتٍ متأخرةٍ من الليل لكنه لم يعد! فوضعت الأسرة فرضيَّةَ اعتقاله نظرًا إلى أنَّه كانَ من أكثرِ الثوَّارِ تشدُّدًا وإصرارًا للدعوة إلى مواكب 6 أبريل احتجاجًا على تردي الأوضاع المعيشيَّةِ وضعفِ الخدماتِ والمطالبةِ بالقصاص للشهداء.
ماهيَ الخطواتُ التي اتخذتها الأسرةُ في رحلةِ البحثِ عن ود عكر؟
ذهبنا لمعتقلاتِ جهازِ الأمنِ، وإلى السجونِ، وجميعِ أقسامِ الشرطةِ، ولم نجده. تقدَّمنا ببلاغٍ بعدَ مرورِ سبعةِ أيَّامٍ على اختفائِه وفقًا لما ينصُّ عليه القانون. ثمَّ أصدرت نشرةٌ؛ حوت مواصفاته لتُعمَّمَ على كافة أقسام الشرطة والمشارح؛ جميعُهم أكَّدوا بما لا يدعُ مجالًا للشك عدمَ رؤيةِ أو مرورِ شخصٍ أو “جثمان” بالمواصفات المذكورة مطلقًا. وقد نفت مشرحةُ التميُّزِ، التي عثرنا – لاحقًا – على جثمان ودعكر داخل إحدى “ثلاجاتها” وجودَه أيضًا.
حدثينا عن لحظةِ العثورِ عليه؟
 اليومُ كان عاديًّا؛ أثناءَ تشريحِ بعضِ الأطباءِ بمشرحةِ التميُّزِ للجثامين، لفت انتباه شبابِ لجانِ المقاومةِ “جثةٌ” تنطبقُ عليها مواصفاتُ ود عكر “تي شيرت أبيض مخطط، بعض إكسسوارات اليدين”، كما لفتَ انتباهَهم أنَّ شعرَ رأسه محلوقٌ من جهةٍ واحدة. كلُّ ذلك آثار فيهم الشكَّ فأخبروا الأطباء.
نتيجة لتحلل الجثة طالب الأطباء بمشرحةِ التميُّزِ بصورِ لأسنان ود عكر، تم التطابق بنسبة 90%، وبعد إجراء البصمة الوراثيَّةِ تم التأكُّد بأنَّ الجثمانَ المشتبه به يعود لود عكر بنسبة 100% ثمَّ تأكَّدت الأسرةُ أيضًا بعد إطلاعنا على صور مسرح الحادث.
عانيتم من تضارُبِ التصريحاتِ الرسميَّة؟
كان هناكَ تضليلٌ واضحٌ ومتعمَّدٌ، إذ ظلَّت الأسرةُ لقرابة الشهرين تبحث عن ابنها. لم نكن نعلمُ من المستفيد من إخفاءِ المعلوماتِ عنَّا. مشرحةُ التميُّز كتبت على جثمان شقيقي: “مواطنٌ من جنوبِ السُّودان يتجاوز عمره ٤٠ عامًا”.
هل تتهمونَ جهةً معيَّنةً باختطافِ وتعذيبِ وقتلِ ودعكر؟
لا نتهمُ جهةً معيَّنةً.
*كَوَّنَ النائبُ العام لجنةٌ للتحقيق من قبل؟
نعم؛ ونأملُ أن تصلَ إلى الجناةِ، ونثقُ في قدراتها.
هل تلقت الأسرةُ أيَّ اتصالٍ، أو زيارةٍ من أيِّ مسؤولٍ بالحكومة؟
لا، لم نتلقَّ منهم حتى واجبَ التعزية؛ ولم نستغرب ذلك! فجثمان الشهيد وجد بالقرب من منطقة شبه عسكريَّةٍ.